للحرمان مواسم, وفي مواسم الحرمان تشتهي النفوس ذلك الحاضر الغائب, المانح المانع, تقفز لمساته الحانية إلي ذاكرة الجسد, تمحوها اللطمات المباغتة القسوة المفاجئة, الصمت الذي يشبه إلي حد بعيد المكيدة المدبرة لايقاع ما تبقي من وجدانك بين شباك الغيظ واليأس, فتسكت ذاكرة جسدك, ويقتحم الخرس خلاياك, يصيب الشلل أمنياتك, ودموعك, حتي غيظك المكتوم يسكت تمهيدا لصرخة رغبة وحيدة, وهي أن يظل غائبا مانعا.
إنها مواسم فيض الشعور بالحرمان, قاسية عنيفة موجعة, لاتقبل التزاوج بين القسوة والحنان, بين الرعاية والإهمال, الحب والرفض, التفاهم والعناد, في تكرار مفجع تتحول إلي شعور مزمن, لا يداويه حضور أو تخففه ذكريات ويزحف الخرس إلي كيانك كله, فلا تعود تشتهي حضوره أو تنتبه لغيابه, لذلك فإن من يأتي متأخرا, الأفضل له ألا يأتي.
ولا تقتصر أفضلية الغياب عن الحضور علي غياب الحبيب أو الزوج وإنما تمتد للأبوين ولأقرب المقربين حينما تكون مهمتهم الوحيدة-حال تواجدهم- هي كسر الخواطر وهدم المحبة.
كتبنا الأسبوع الماضي تحت نفس العنوانالجوع للأمان علي موائد العهود المهجورة عن صابر ذلك الرجل الذي يعاني من زوجة متسلطة تريد إنجاب الولد, بعد سبع بنات حصيلة عشرين عاما ثلاث منهن في بيت لليتيمات, لأن صابر لايستطيع الإنفاق علي أسرته.
جاء إلينا طالبا معونة ليتمم زيجة ابنته الكبري 19 سنة, لم يكن لديها ما تبتغيه أية عروس, لم يكن لديها حتي كلمات تقدم بها نفسها حينما اصطحبها والدها أملا في جمع بعض المال لسترها لم يكن لديها سوي الخجل, ومرت الأسابيع وساهم بابافتح قلبك في بعض نفقات زواج الفتاة لكن لم يكن من المتوقع أبدا ما فعله صابر.
في ليلة زفاف ابنته الكبري افتعل مشاجرة مع أسرة العريس, وانقلب الفرح لمعركة بالضرب والشتم والسب وانقضت الليلة في البكاء, فالنفسيات المفككة لاتحتمل ليالي الفرح, لم تكن المصيبة فيما فعله صابر في بث روح الحزن داخل قلب ابنته في ليلة العمر ولكن الكارثة الكبري ما فعله مع الثلاث القادمات من بيت اليتيمات.
حدثتني إحداهن بصوت باك قائلة:خلاص مش عايزة أجي القاهرة تاني مش هادخل البيت ده تاني, جينا إحنا التلاتة علشان نحضر فرح أختنا لكن أبويا قلب الفرح لميتم, وفي الآخر لما قلنا له ليه كده؟!وصرخنا فيه ضربنا إحنا التلاتة وقال ماتجوش هنا تاني طيب خلفنا ليه لما رمانا في ملجأ؟ خلفنا ليه لما مش عايزنا؟ خلفنا ليه لما هو مش قادر حتي يكون أب ولو بالحنية بس مش عايزين منه حاجة؟ وبقينا يتامي وإحنا عندنا أب وأم حنية مفيش يوم ما نشوفه يضربنا ويقول مش عايزنا, طيب ده أمي حامل هاتخلف تاني أزاي؟ وتجيب طفل ولا طفلة تعمل بيها إية؟ تعذبها وتيتمها زيينا؟ مش كل حاجة الفلوس كان نفسي أحس أن عندي أب وأم عاديين حتي لو محتاجين بس الحنية مابتتشحتش.
التقطت شقيقتها الأخري الهاتف وأكملت:أنا وتوأمتي المفروض نروح الملجأ زي إخواتنا, علشان نتعلم وتعيش في جو عادي, لكن لو إحنا دلوقتي مين هايقعد مع أمي إللي هاتولد ويشيلها وأختنا الصغيرة إللي عندها سنة والبيبي الجديد إللي جاي؟ إحنا في زنقة كبيرة محرومين من كل حاجة حب وحنية وعيشة كريمة واهتمام, وتعليم, ولولا أن الكنيسة بتدينا 400 جنيه, ماكناش لقينا اللقمة حاف خصوصا بعد أبويا ما أجري جراحة تركيب دعامات في القلب أكتر من مرة ومطلوب عملية قلب مفتوح أنا مش عارفة بافكر صح ولا غلط لكن عايزة أعرف أوافق وأروح بيت اليتيمات أنا وتوأمتي حاليا ولا نستني سنة كمان تكون أمي شدت حيلها؟
لم يكن بوسعي تمثيل دور البطولة النزيهة مع فتيات لم يأملن سوي في حياة أقل من العادية, لم تنفجر حاجتهن لها إلا حينما حل موسم الحرمان بزواج شقيقتهن الكبري, حينما اتضح لهن أن كل واحدة ما هي إلا اسم في القيد العائلي بالنسبة لصابر وشوقية, كانت فرصة الدفء, وسد جوع الحب داخلهن في لم شمل الأسرة من الملاجيء وقت زواج الشقيقة الكبري حتي هذه الفرصة ضيعها الرجل بحماقته, لأنه لم يشبع بعد من اللهاث خلف الولد هو وزوجته, بل أنه كلما يري الفتيات يعتبرهن سبب تأخر قدوم الصبي المنتظر ويصب جام غضبه عليهن.
يا صغيرتي لا تتردي اذهبي لبيت اليتيمات مع شقيقاتك والدتك سوف تتدبر أمرها ليست تلك مسئوليتك يا ذات ال13 ربيعا, الحقي بقطار العلم, والكرامة,لاتترددي أنت في حل من مسئولية والديكي وجودك في الحياة كان مسئوليتهما أما أنت فمسئوليتك ووزنة أيامك هي نفسك حتي يكون لك القوة والحصانة لتحمل دور آخر جديد بإرادتك, أما الآن فاهربي قبل الضياع والدتك حامل في الطفل رقم 8 وربما يكون ابنة في طريقها للملجأ أيضا ولا أحد يعلم ما هو رد فعلها أو رد فعل والدك إذ كان الجنين بنتا, ابتعدي عن تلك الدائرة المفزعة الآن, ولن نتخلي عنك ولا عن شقيقاتك أينما وجدتن.
قالت إنها سوف تدرس الأمر مع شقيقاتها, تركتها وأنا كلي حيرة كيف يشب المحرمون علي المسئولية التي يهرب منها المشبعون وكيف يتم نقل الأدوار عبر تخل وأنانية وجهل طرف, وعجز وقلة حيلة طرف, كل ذنبه أنه جاء إلي هذا العالم دون أن يسأله أحد:هل توافق؟ وما بين الرغبة في العزوة الذكورية وضيق ذات اليد, يظل مصير الصغيرات مظلما.