التوحش يبتلع الرحمة أحيانا والتجاهل يفخخ كرامة المحتاجين ويفجر آمالهم، لم يترك التوحش شيئا في جمهورية الظلم لم يفخخه، عيون المحرومين، أمان المستورين، أجساد المرضى على بوابات المشافي. اغتال التوحش حتي براءة الأطفال، انتزع من قلوبهم شجرة البهجة وزرع الصبار، في جمهورية الظلم نامت الليالي في أحضان اليأس تسبق نعاسها نهنهات الويل من كأس المر، وتجرعه المظلومون يوما بعد يوم حتى أدمنوه، وفي لحظات الترنح الأخيرة أيقظتهم الإنسانية الغائبة، ألحت عليهم ألا يذهبوا لليأس طواعية، ألا يبيعوا آدميتهم مقابل لقمة عيش، وانتفض الكائن المتمرد داخل البعض منهم، صارخا لست من هنا، ولا أنتمي لهذا المكان الموحش.. فيا جمهورية الظلم أفيقي سكانك أصنام وأنا إنسان، حتى لو أوصلني القهر لمرحلة العدم سأظل بشرا تتراقص آماله في المستقبل علي إيقاع نبض قلبه طالما احتلته الحياة.
الصوت الصارخ هذه المرة هو صوت الأسطي ”مرزوق” الذي نشرنا قصته بالتفصيل منذ سنوات، وقدمناها بسطور مشابهة تماما فما عاد بالقاموس كلمات أكثر إيلاما، جاءت قصته حينها تحت عنوان مقبرة الأحياء، ”مرزوق” الذي يبلغ من العمر 46 عاما، يعمل ترزياً متخصصاً في مجال ملابس الكهنوت والشمامسة ومناسبات العماد ـ رجل معدم، يحيا في حارة في بطن حارة عرضها لا يزيد عن 2.5 متر، مساحة لا تقترب من ربع مساحة ريسيبشن متواضع في منازل الميسورين، باب من الخشب المتهالك مغلق، وإذ تفتحه لا تجد إلا تربة مقبرة لكنها للأحياء.
لم يطلب ”مرزوق” طلبات مستحيلة، أمنياته البسيطة كانت تنحصر في توب قماش لطلبية عاجلة، لا يملك ثمن المادة الخام، فضلا عن أنه لا يملك ماكينة تطريز، يذهب لزميل له ويستأجر الماكينة بالساعة، مقابل نسبة من المكسب الذي بالكاد يغطي التكلفة، حينها كتبنا عنه أن طلباته لم تكن درامتيكية حتى ينال التعاطف والعطايا المتدفقة، بسبب سوء معيشته، وإنما أقل القليل.
وهو الأصغر بين إخوته وأخواته وعددهم خمسة، يتيم الأبوين منذ أن كان عمره 13عاما، يحيا مع أخيه الأكبر الذي يبلغ من العمر 50 عاما، قرر أخوه الزواج لكن على حساب ”مرزوق” الذي سيواجه التشرد، لذلك قرر ”مرزوق” استئجار حجرة لكنها فارغة إلا من البرد والوحدة، لا يوجد بها أي شيء.
حينما روي لنا قصته لم نتأخر عن تركيب الشباك والباب وتصليح الحمام الملحق بالحجرة، لكنه لم يطلب شيئا آخر، ربما لأنه عزيز النفس لدرجة ملفتة، ومضت الأيام وجاء ”مرزوق” مرة أخرى, بعدما هدأت ثورة عزة نفسه، وهذه المرة لم تكن طلباته من أجل عمله، ولكنها من أجل تعبه، حضن الأرض صار قاسيا مع حلول فصل الشتاء، وليس لديه سرير يسند عليه ظهره المنحني، ولا بطانية يستدفئ بها لتغمض عينه بعد نهار مرهق شاق، جاء في حرج شديد يطلب بطانية وسريرا.
نظرت إليه والحسرة تقتلني علي طوفان المظلومين في الأرض الذين لا يأملون إلا في النوم فوق سرير. ”مرزوق” لم يتزوج ومن أين له الزواج وهو لا يستطيع أن يشتري بطانية؟!, أجبته: طبعا هانشرتيها فورا، لم يرحل ”مرزوق” وظل صامتاً،ولم أفهم صمته، ولم أفهم بقاءه دون حديث، ثم ذهب وعاد ثلاثة مرات خلال عشر دقائق. أدركت أن هناك ما يكتمه في صدره ولا يستطيع البوح به، فكان علي أن أبدأ بجذب أطراف الحديث من فمه المبتسم رغم ملمات الحياة به، فقال في خجل: أنا كبرت أوي وبصراحة لقيت بنت الحلال، غلبانة وشبهي في الأحوال، ومالهاش حد، والكنيسة هاتشتري لها أوضة النوم والمطبخ وبدل ما أنا أفرش أوضتي وأجيب سرير ممكن أجيب الأنتريه والأجهزة الكهربائاية، بس لغاية ما ده يحصل لازمني البطانية أنا بأبرد بالليل جدا، أنا عارف أنك عاوزة تقولي لي أن إللي زييي مش المفروض يفكر في جواز لكن وآخرتها هل ينفع أعيش لوحدي العمر كله؟ ولغاية أمتي ممكن الحياة تسيبني قادر علي الوحدة، اللي زينا بيتجوزوا مش علشان الجواز والأسرة، لكن بيتجوزوا خوف من بكرة ورعب من الوحدة ورغبة في الونس بدل ما نتجنن، علشان ما يبقاش فقر بره وجوه.
مش عايز روحي تعيش فقيرة عايز شريك في همومي، هو ده مش من حقي بعد العمر ده كله؟ أما ما أخدتش أي حاجة في الحياة دي، لا أخوات ساعدوني ولا أم وأب ربوني، ولا حد سندني، ولا أخدت حقي في تعليم، ولا الدولة أدتني فرصة شغل ولا تأهيل، ولا علاج لأمي إللي ماتت ولا سكن أعيش فيه أنا وإخواتي.كنا بننام زي كوم اللحم فوق بعضه ـ نفسي بس ألاقي حد معايا لما أجي أموت بدل ما أموت وأعفن محدش يحس بي إلا لما ريحتي تطلع، نفسي أحس أني بني آدم حتي الاقي حد يشاركني في الظلم إللي أنا فيه طول عمري.
“مرزوق” وضع يده علي الداء، إنها الوحدة أشرس عدو، والشراكة في الفقر أفضل من مواجهته فرادى، والحق في الحياة والحب وتكوين الأسرة لا يقتصر على القادرين، لكن فشل في الارتباط رغم محاولاته، حتى الفقيرة التي تشبهه رفضت ظروفه، وفقد الأمل في الونس، وشريك في العجز واستمر حالة كما هو، ولم يجهز مسكنه، وعاد يبكي وحدته، ولا يطلب حاليا سوى بوتاجاز وثلاجة، ومروحة تعينه على حر الصيف.
طلبات أقل من الآدمية، ربما لن تعوضه عن الزيحة، لكنها تساعده على الحياة التي فرضت عليه الرهبانية الإجبارية، وليس ”مرزوق” فقط ولكن هناك آلاف النسخ من ”مرزوق” موتي رغم الحياة, فقط لأنهم فقراء.. ويبقى السؤال إلى متى تستمر جمهورية الظلم في تسليط سيفها فوق رقاب الغلابة؟ إلى متى يمكننا أن نصمد في وجه جمهورية الظلم وتلملم بذارها السوداء حتى يستقيم العدل؟.