الروح القدس يعمل فينا, ويمنحنا حرارة روحية. ولكنه لا يلغي حريتنا…
فلنا الحرية أن نحتفظ بهذه الحرارة, أو نطفئها.
الروح القدس لا يرغمنا علي عمل الخير, إنما يحثنا عليه ويرشدنا إليه. ويعمل معنا إن عملنا الخير.
وكلما نشترك مع الروح القدس, وتعمل أرواحنا معه, تزداد حرارته في قلوبنا اشتعالا, وتدفع الفكر والإدارة وينمو الإنسان يوما بعد يوم في حياة الروح. وتلتهب فينا محبة الله.
ولكننا عمليا لا نحتفظ بهذه الحرارة الروحية علي الدوام.
فكثيرا ما تخف أو تنطفئ في داخلنا.
نقص الحرارة الروحية, يتسبب عنه الفتور الروحي.
وضياع هذه الحرارة بالتمام, يسبب البرودة الروحية.
وكلاهما خطر علي حياة الإنسان وروحياته, وغالبا ما يكونان مقدمة للسقوط في الخطية, إذ يقدمان الوسط الذي يمكن أن يعمل فيه الشيطان, بدون مقاومة من إرادة الإنسان…
إرادة الإنسان…
وانطفاء الحرارة الروحية, ينطبق علي معنيين هما:
1 انطفاء الشعلة المقدسة التي في روحك البشرية, التي تميل بطبعها إلي الخير, إذ قد خلقت علي صورة الله.
ب انطفاء عمل الروح القدس في قلبك, نتيجة لرفض إرادتك البشرية أن تشترك معه…
ولا شك أن لانطفاء الحرارة الروحية أسبابا خارجية وأسبابا داخلية. فما هي؟
الأسباب الخارجية..
ليست كل الأسباب الخارجية يمكنها إطفاء الروح…
مهما كانت خطورتها, ومهما كانت ضاغطة… ما لم تضعف أمامها الإرادة وتستسلم وتلقي سلاحها… إذن لابد أن الداخل قد ضعف.. وضعفه هو الذي أعطي قوة لهذه العوامل الخارجية…
ذلك لأن هناك عوامل خارجية تثير في القلب النقي روح المقاومة, فتزداد حرارته رغبة في الانتصار.
وهكذا تكون الأسباب الخارجية قد أتت بنتيجة عكسية لما يقصده الشيطان منها, وأيضا لأنه في وجود هذه الحروب الروحية من الخارج يزداد عمل النعمة من الداخل, والروح القدس يسند الإنسان, وعن هذا الأمر قال الرسول حيث كثرت الخطية, ازدادت النعمة جدا رو 5: 20.
إذن الأسباب الخارجية هي مجرد عامل مساعد…
أما أن تكون البادئة, وتضغط وتلح, حتي تسبب ضعفا داخليا يقبل تأثيرها, وإما أن تنتهز فرصة ضعف داخلي موجود, تستطيع عن طريقه أن تأتي بنتيجة…
1ـ في مقدمة الأسباب الخارجية: البيئة الخاطئة, والجو غير الروحي…
ولعل من أبرز الأمثلة علي ذلك, ما حدث للوط البار في أرض سادوم, إذ قال عنه الكتاب إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم ـ يعذب يوما فيوما نفسه البارة بالأفعال الأثيمة (2 بط 2:8). بل قيل إنه كان مغلوبا من سيرة الأردياء في الدعارة (2 بط 2: 7)… لهذا كان لابد أن يخرج هذا الرجل البار من تلك البيئة. وهكذا قال له الملاك.
اهرب لحياتك… لا تقف في كل الدائرة تك 19: 17.
لقد فقط لوط حرارته الروحية في أرض سادوم.
وكلماته فقدت حرارتها وتأثيرها. لذلك قيل عنه حينما دعا أصهاره إلي الخروج من سادوم, أنه كان كمازح في أعين أصهاره (تك 19: 24).
إن البيئة الشريرة قد لا تكتفي فقط بإطفاء الروح, بل قد يزداد تأثيرها وتستطيع أن تفسد الأخلاق الجيدة (1كو 15: 33). وربما تؤثر علي الإيمان ذاته! وعلي كسر النذر!
ومن أبرز الأمثلة في ذلك: سليمان الحكيم وشمشون الجبار.
* سليمان الذي تراءي له الله مرتين: في جبعون وفي أورشليم 1مل 8: 2 وأخذ من روح الله الحكمة.
حتي أنه لم يكن مثله قبله, ولا قام بعده نظيره 1 مل 3: 12. هذا الحكيم لم يفقد فقط حرارته الروحية, وإنما بالأكثر أمالت نساؤه قلبه.. وراء آلهة أخري (1مل 11: 3, 4)..!!
* وشمشون الذي كان روح الرب يحركه (قض 13: 25)… كسر نذره بالبيئة الخاطئة ومعاشرة دليلة. فكسر نذره, وانطفأت حرارته والرب فارقه وفارقته قوته (قض 16: 19, 20).
لذلك كله, وبسبب خطورة البيئة الخاطئة علي الروح:
أمر الله بعدم مخالطة الأمم غير المؤمنة والنساء الغريبات.
يدخل في البيئة أيضا وتأثيرها: ما يطفئ الروح من داخل الأسرة, كما قيل إن أعداء الإنسان أهل بيته (متي 10: 36). وكذلك الصداقات غير البريئة, وبعض الزملاء, وأيضا تأثير القراءات, وبعض وسائل الإعلام, وكل تأثير يأتي من الخارج ويطفئ الروح…
يضاف أيضا إلي تأثير البيئة في إطفاء الروح:
2ـ تأثير المشاكل والأحداث والاهتمامات:
كل إنسان في الدنيا, حياته معرضة للمشاكل والأحداث. فهل بالضرورة يتعرض تبعا لذلك إلي انطفاء حرارته الروحية؟ كلا بلا شك. إذن أين يكمن الخطر الروحي؟
تتسبب المشاكل في إطفاء الحرارة الروحية, إذا ما استقطبت الإنسان, واستولت علي فكره ومشاعره.
أي أن المشكلة تستحوذ علي كل اهتمامه, بحيث تشغل كل وقته وكل تفكيره وكل إحساساته. وهكذا قد لا يبقي له وقت للصلاة. وإن صلي يسرح فكره في المشكلة!!
وهكذا يطفئ الروح وعمله فيه, لأنه غير متفرغ لأي عمل روحي. وقد استولت المشكلة عليه بالتمام. وربما أسلمته أيضا إلي القلق والاضطراب والحيرة…!
أما الشخص الروحي, فإن المشاكل تعمق صلواته بالأكثر, ولو من أجل حلها. فتزداد حرارته.
هو يطرح الأمر أمام الله, ويتركه له ليحله. وبكل إيمان وبكل حب, يثق أن الله سيحل الإشكالات… وهكذا ينتصر علي المشكلة بروح الصلاة والإيمان, ولا يسمح لها بأن تنتصر عليه… وبقي كما هو, محتفظا بحرارته.
لا يفكر في المشاكل, لأنه واثق أن الله سيعمل عملا…
إذن ليست الخطورة في المشكلة, وإنما في الأسلوب الذي نتعامل به مع المشكلة.
داود النبي كانت تحيط به المشاكل, فيسرع إلي مزماره وإلي عوده, ويسكب نفسه في حرارة أمام الله, حتي في الوقت الذي كثر فيه الذين يحزنونه, وقالوا له: ليس له خلاص بإلهه!! مز 3… داود لم يفقد حرارته في وقت الشدة, لأنه لم يكن ينحصر فيها, إنما كان يلجأ إلي أحكام الله وشهاداته وناموسه, يتأمل فيهم. فترتاح نفسه, وتزداد حرارته. هوذا يقول:
ضيق وشدة أدركاني ووصاياك هي درسي (مز 119).
ويقول في نفس هذا المزمور الكبير كادوا يفنونني علي الأرض, أما أنا فلم أترك وصاياك, اذكر لعبدك كلامك الذي جعلتني عليه أتكل. هذا الذي عزاني في مذلتي, جلس الرؤساء وتقاولوا علي. أما عبدك فكان يهتم بحقوقك, لأن شهاداتك هي درسي… بقي في تأملاته, ولم يهتم بما يتقاول به الرؤساء عليه… وفي شهادات الرب وفي كلماته, كان يجد العزاء. وتزداد روحه حرارة وحبا…
ليت المشاكل تدفعنا إلي الصلاة بكل حرارتها, ولا تدفعنا إلي التفكير والقلق…
القديسون كانوا محاطين بمشاكل. لكنهم كانوا محاطين بروح الله أيضا, هو يحلها لهم ويعزيهم, لأنه هو الروح المعزي يو 14: 26.
إن الشيطان إذا رأي أن المشاكل تربكنا وتفقدنا حرارتنا الروحية, فلا مانع عنده من أن يقدم لنا كل حين مشكلة جديدة ننشغل بها ونتفرغ لها!! ولكنه لا يفعل ذلك إذا وجد أن المشاكل تقودنا إلي الصلاة…
3ـ مما يطفئ الروح أيضا, كثير من كلام الناس:
وبخاصة الأحادث غير الروحية, والفكاهات العابثة, وكلام اللهو, ومسك سيرة الناس, وما أشبه ذلك…
كل هذه الأنواع من الكلام السائب غير المنضبط, التي تتيه الإنسان عن أبديته, وتشتت فكره, وتبرد حرارته, وتساعده علي الاشتراك في الخطأ, وتقلل حرصه وتدقيقه.
وكما قال الكتاب:
كثرة الكلام لا تخلو من معصية (أم 10: 19).
ولهذا قال أحد الآباء في بستان الرهبان: إذا أنت مشيت مع إنسان صالح من قلايتك إلي الكنيسة, يقدمك عشر سنوات. وإذا مشيت مع إنسان منحل يؤخرك خمسين سنة!
ما أكثر ما يتحدث معك أحدهم, فتتركه, وقد فقدت الكثير من روحياتك, وتجد حرارتك قد انطفأت! وقد تخرج من القداس متعزيا, وفي حالة روحية. فيقابلك أحد معارفك, ويفتح معك موضوعات متعددة, بعضها شائك جدا, فتدخل أفكار ومشاعر إلي قلبك, تطفئ ما نلته في القداس من حرارة وتعزية.
ولذلك حسنا كان القديس مقاريوس الكبير, يقول للإخوة وهم خارجون من الكنيسة:
فروا يا إخوة فروا…
ثم يضع يده علي فمه ويقول من هذا فروا…
حقا ما أفيد أن يحضر إنسان القداس الإلهي, ثم ينصرف مباشرة مستفيدا من النعمة التي قد نالها, وهاربا من اللقاءات التي تتم خارج الكنيسة, في فنائها أو علي أبوابها… هاربا من الأحاديث والأخبار والسير والفكاهات والتعليقات… التي تبرد حرارته.
إن الشيطان قد لا يمنع الناس من الذهاب إلي الكنيسة, بل ينتظرهم خارجها ليبدد ما جمعوه!
منعهم من دخول الكنيسة حرب مكشوفة من السهل أن ينتصروا عليها. ولكنه ينتظر خارجا ويقول هلموا بنا نحكي, وفي حكاياته معهم يعمل لهم غسيل مخ, يضيع به كل ما أخذوه من بركة, أو علي الأقل يطفئ حرارتهم, وهكذا كثيرون يذهبون إلي الكنائس, ويرجعون إلي بيوتهم بلا فائدة!
وما نقوله عن القداسات, نقوله أيضا عن الاعتراف.
تذهب إلي أب اعترافك, وأنت مر النفس بسبب خطاياك, منسحق القلب جدا, يعصرك الندم علي ما فعلته.
وتريد أن تأخذ عقوبات كنسية تسحقك بالأكثر, وتريد أن تمارس تدريبات روحية تقدم حياتك وتنميها. وتخرج من عند أب اعترافك, وأنت في هذه الحرارة الروحية, وفي الطريق يقابلك صديق ليحكي لك آخر الفكاهات التي سمعها… وتفقد حرارتك!! حقا كما قال الحكيم في سفر الجامعة للبكاء وقت, وللضحك وقت (جا 3: 4). وواضح أن يوم الاعتراف ليس هو يوم الضحك…
4ـ من الأسباب التي تطفئ الروح أحيانا: شدة الحروب الروحية واستمرارها.
هناك حروب روحية تدعو إلي مزيد من الجهاد ومن الصلاة, بحرارة شديدة للتغلب عليها… ولكن هناك حروبا أخري ضاغطة ومستمرة, وربما فوق الاحتمال العادي. وهذه أن لم تؤد إلي السقوط في الخطية, فعلي الأقل تبرد الحرارة… وبخاصة حروب الفكر وحروب الحواس التي تستمر مدة طويلة… ولكن الله من مراحمه لا يدع هذه الحروب تسيطر, ويتدخل لإنقاذ عبيده…
تحدثنا عن الأسباب الخارجية لإطفاء الروح, ولا شك أن هناك أسبابا أخري عديدة.
ثم أن هناك أسبابا داخلية تطفئ الروح, من داخل قلب الإنسان, أو في صميم حياته الخاصة فكره ومشاعره وشخصيته.. نود أن نتحدث عنها في العدد المقبل, إن أحبت نعمة الرب وعشنا…