” إنِّي وديعٌ متواضِعُ القلب ” ( متى ١١ : ٢٩ )
” ليس لأحد حبٌّ أعظم من أن يُبذِلَ الانسان نفسه في سبيل أحبائه ” ( يوحنا ١٥ : ١٣ )’
هذا الحبّ الأعظم هو حبّ يسوع ابن الله، الذي تجسّد من العذراء مريـم وصار إنسانًا، ومات ليفتدي البشرية جمعاء، ونال غفران الله لكلّ إنسان خاطئ، وأعطانا الحياة الجديدة بالروح القدس، وأسّس سرّ القربان والكهنوت، سرَّي حبّه اللامتناهي، من أجل استمرارية ذبيحة الفداء، ومَنْحِ الحياة للعالم بطعام جسده ودمه.
هذا الحبّ الأعظم نُكرّمه ونقتدي به في عبادة قلب يسوع الأقدس . هذه العبادة هي مدرسة الحبّ على مثال المسيح، وقد جعله قاعدة لحياة الإنسان : ” ليس لأحد حبٌّ أعظم من أن يْبذِلَ الانسان نفسه في سبيل أحبائِه “( يوحنا ١٥ : ١٣).
نحتفل بعيد قلب يسوع ونرفع صلاتنا طالبين أن نرتوي الحبَّ من نبع الحب الذي جرى من قلب المسيح الفادي، وقد حفره الرمح في قلبه على الجلجلة فجرى منه ماء المعمودية ودم القربان ( يوحنا ١٩ : ٣٤ ).
عندما ظهر الربّ يسوع بقلبه الطاهر للقديسة مارغريت ماري الاكوك Marguerite Marie Alacoque سنة ١٦٧٥ قال لها: ” هذا هو القلب الذي أحبّ الناس الحبّ الأعظم، حتّى التفاني وبذل الذات، ليشهد لهم عن حبّه. ولكنّي بالمقابل، لا أتلقّى إلاّ الإهانات “. ثمّ عاد وأكّد لها: “إنّ قلبي الإلهي مولَعٌ بحبّ البشر، وبالحبّ لكِ بنوع خاص”. فأدركت الراهبة مارغريت ماري الاكوك Marguerite Marie، وهي من راهبات الزيارة، أنّها تتسلّم رسالة نشر العبادة للقلب الأقدس . وهكذا بالتعاون مع الأب كلود لا كولومبيير Claude La Colombière، الذي وضعه الربّ يسوع على دربها، راحت تعمل على تعزيز هذه العبادة . فوضعت ساعة سجود أمام القربان المُقدّس بروح الإماتة، في آخر خميس من كلّ شهر من الساعة الحادية عشرة حتّى منتصف الليل، تذكاراً ومشاركةً بآلام النزاع التي تحمّلها الرب يسوع وحيداً في بستان الزيتون عندما تركه الجميع، حتى تلاميذه، ودعت إلى المناولة التعويضيّة في يوم الجمعة التالي.
ثمّ أوحى الربّ يسوع للراهبة مارغريت عن رغبته في إقامة عيد قلبه الأقدس، يوم الجمعة من الأسبوع الذي يلي عيد القربان(خميس الجسد).
إنَّ عبادة قلب يسوع هي عبادة سرّ القربان المُقدّس نفسه، والمعروف بسرّ الحبّ. وهكذا جرى الاحتفال بهذا العيد حتى يومنا. من سرّ الحبّ في القربان الذي علامته قلب يسوع الظاهر لها مُشعاً بأشعّةِ الحبّ، إستمدّت الراهبة القديسة مارغريت الاكوك Marguerite Marie كلَّ القوّة على تحمّل الآلام وصلبان الحياة الحسّيّة والنفسية، حتى إنّها رفضت أيّ دواء يُسكّن مرضها الأخير، وكانت تُردّد: ” إنّ ما عندي في السماء، وما أرغبه على الأرض، هو أنتَ وحدك، يا إلهي “. ما أجملها سعادة في قلبها. نحن اليوم نلتمسها في هذا الاحتفال، لكي يكون مثل هذا الحبّ مصدر طاقة لنا للصمود في محن الحياة.
الله الذي كشف عن عمق محبةِ قلبهِ لكل واحدٍ منا، بيسوع ابنه، يطلب من المؤمن به أن يبادله الحبّ عينه بقوله: “يا بُني اعطني قلبك”( سفر الأمثال ٢٣ : ٢٦ ). إنّه لا يتركنا ملَطّخين بخطايانا بل ” يخاطب قلبنا ” ( سفر هوشع٢ : ١٦) من جديد . فنحبّه من كل القلب والفكر والنفس والقوة (سفر تثنية الإشتراع ٣٠ : ٦). إنها الوصية الأولى التي لا وصية اعظم منها، ومثلها محبة القريب كالحبّ للذات. وهي الوصية القديمة التي جعلها “جديدة” بقاعدتها: ” أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا احببتكم “(يوحنا ١٣ : ٣٤) . فكتبها شريعةً، لا على الواح حجرية، بل على قلوبنا( قورنتس الثانية ٣ : ٣)، وبها ومن خلالها ” يكون هو لنا إلهاً ونكون له شعباً ” ( سفر إرميا ٣١ : ٣٣ ).
إنّ أجمل صلاة تعبيرية عن محبّتنا لقلب يسوع الأقدس، نتلوها ليس في هذا اليوم ، يوم عيد قلب يسوع الأقدس ، بل في كل يوم من أيام حياتِنا ، يرفعها كل واحدٍ منّا على لسان القديس جان ماري فيانّيه، المعروف بخوري آرس : ” أنا أُحبّك يا إلهي ، ورغبتي الوحيدة أن أُحبّك حتى آخر نَفَس من حياتي. أُحبّك يا إلهي المحبوب للغاية، بل أُحبّ بالحري أن أموت وأنا أُحبّك ، من أن أعيش من دون أن أُحبّك . أُحبّك يا ربّ، والنعمة الوحيدة التي أطلبها هي أن أُحبّك إلى الأبد . يا إلهي ! إذا لساني عجز عن أن يقول في كلّ وقت أني أُحبّك، أريد أن يردّد لك قلبي ذلك بكلّ ” نبضة من نبضاته ” .
” حيث يكون كنزكم، هناك يكون قلبكم “(لوقا ١٢ : ٣٤) :
كلام المسيح هذا يُعلّمنا أنّ الكنز الحقيقيّ هو الحبّ لله وللإنسان. ومن هذا الكنز يستمدّ كلّ واحد وواحدة منّا ثقافتَه وسعادتَه ونوعيّةَ أعماله ومواقفَه ومبادراته . وهذا الحبّ وحده يملأ فراغ قلب الإنسان بالسلام الداخليّ الذي يشعّه إلى الخارج في العائلة والمجتمع والعالم ، إلى هذا السلام وهذه الطمأنينة الداخلية، مهما كثرت المصاعب والمحن، يدعونا الرب يسوع في عيد قلبه الأقدس : “تعالوا إليَّ جَميعاً أيُّها المرهقون والمُثقَلون ، وأنا أُريحُكم . إحمِلوا نيري وتَتَلمذوا لي فإنّي وديعٌ مُتواضعُ القلب ، تجدوا الرَّاحة لِنفوسِكم ” (متى ١١ : ٢٨ – ٢٩ ) .
عيد قلب يسوع يعني حضور المسيح الذي هو ” قلب العالم ” كما يقول قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، لكنّه لا ينفصل عن حضور قلب أمّه : ” قلب مريم الطاهر “. من هذين القلبَين الأقدسَين ، من هذه المدرسة الواحدة، يستمد الرجال والنساء ، الشباب والأطفال ، المرضى والأصحاء ثقافة الحبّ وحضارته، ويعملون على نشرها، والتربية عليها، والتعبير عنها، في الحياة اليومية، بالقول والفعل . لقد دخل الله بمحبّته حدود تاريخ البشر وظروفهم الانسانية، متّخذًا جسدًا وقلبًا لكي يعيد للإنسان قدسية جسده ، وإنسانية قلبه . إنّها الولادة الثانية بمعمودية الماء والروح لإنسان جديد فينا، يغتسل بدم الغفران، ويتغذي من دم الفادي الإلهي وجسده . لقد بدأت هذه الولادة الثانية لكل إنسان، وجرت من ينبوع قلب الفادي المصلوب الذي احتفرته الحربة، فجرى من قلبه الدم والماء (يوحنا ١٩ : ٣٤) .
عالم اليوم، جائع وعطشان إلى حبّ وعدل وسلام . رسالتنا كمسيحيين ان نسدّ هذا الجوع ونروي هذا العطش. لكنّنا لا نستطيع القيام بهذه الرسالة، ما لم تسكُن محبَّةُ الله والإنسان في قلوبنا بالرّوح القُدس، محبةٌ نغرِفها من قلب يسوع الأقدس، من ذبيحتِهِ ووَليمَتِهِ القربانية. إنّ قلب يسوع الأقدس رمزٌ وعلامةٌ لسرِّ حُبِّه في سرّ القُربان، حيثُ جَسَّد حُبَّهُ الأعظَم بِبَذل ذاته ذبيحةَ فداءٍ على الصَّليب، وبِتقديمِ جَسدِه ودَمِه خُبزًا وشرابًا سماويًا للحياة الجديدة فينا وفي العالم.
أيُّها القلب الإلهي البشريّ، قلب يسوع الأقدس وقلب مريم الطاهر، أفِض الحبّ في قلوبنا وفي قلوب جميع الناس، لكي يعيشَ العالم في الحقيقة والمحبّة والعدالة والحريّة والسلام، ويَسعد كل إنسان .
وبنبضات الحبّ من قلوبِنا نرفَع نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القُدس، الى الأبد .