مضت سنوات الحماس الثوري, وانتقلت الثورة من الشوارع إلي العمل علي موائد السياسة, وهو الميزان الحقيقي لقوة كل طرف في العملية السياسية, ثم حلت السنوات العجاف التي عادت فيها النخبة لنبرتها وخياراتها القديمة, تلك الخيارات الأسهل والأرخص في التطبيق, خيارات المقاطعة والانسحاب وتسجيل المواقف وشخصنة القرارات, وهذا هو بيت القصيد فيما تمر به الآن من تخبط وغياب تام للمعارضة الوطنية عن المشاركة في العملية السياسية, وبغض النظر عن التراجع الذي يشهده ملف الحريات, والتراجع في ملف الإعلام, وبغض النظر عن السلبيات التي ترصدها الأصوات المعارضة وأويدها تماما بل أنني منها ومحسوبة عليها, إلا إنني لم أجد طرفا يقدم البديل, ولا حتي عبر اتفاق أو تحالف حقيقي خارج بيانات الرفض والإدانة التي صدعت أدمعتنا لإثبات المواقف دون إنخراط جاد مع القواعد الشعبية في المجتمع, تعللا بأن العمل الحزبي في الشارع صار خطرا يهدد الحزبيين بالحبس والملاحقة.
هذا ما يردده البعض ولا ألوم أحد علي تخوفاته في ظل موجات التضييق غير المسبوقة التي حدثت في العامين الماضيين, باعتبارها إجراءات مصاحبة لمحاربة الإرهاب لكنني ألوم قيادات النخبة قليلة الحيلة, التي قلصت عملها واستبعدت الشباب تحت دعوي التضييق ثم استيقظت فجأة, وكأنها لم تكن تعلم أن الدستور ينص علي إجراء انتخابات مجلس الشوري لتقرر أنه لامكان لأعضائها في هذا الكيان لأنه جاء كالغفلة.
ثم بدأت الحركة المدنية الديموقراطية أو الحركة الوطنية المدنيةهي حركة سياسية ليبرالية مصرية تأسست في عام 2017, وتضم عددا من الأحزاب هي: حزب الدستور, حزب الكرامة, حزب التحالف الشعبي الاشتراكي, الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي, حزب العيش والحرية, بدأت في التركيز علي خطتها للمشاركة في انتخابات مجلس الشعب وبدلا من التوحد جاء التفكك المعهود, فبعد أن رفضت الحركة المدنية مشروع قانون في يونية, والذي تم إقراره بسبب استمرار إجراء الانتخابات البرلمانية بالقوائم المطلقة المعيبة ووصفتها بأنها غير ديموقراطية سار كل منهم في طريق ليخرج علينا الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي, بقرار بدا فيه أنه يغرد خارج السرب.
أعلن الديموقراطي الاجتماعي تحالفه مع حزب مستقبل وطن- المحسوب أنه موال للنظام الحاكم- ليشارك في قائمته وانتفضت قيادات النخبة, رافضة مباردة الحزب المصري الديموقراطي واصفة إياها بالانتهازية, وارتفعت من جديد صيحات التخوين وكأن السبيل الوحيد للمعارضة في وطننا هو مقاطعة النظام وقطع الجسور مع كل ما يمت له بصلة, وهو وأمر غير منطقي في أي بلد, فالنقاء الثوري لايتعارض مع الإصرار علي المزاحمة والمثابرة وخلق موضع لقدميك في أرض العملية السياسية أما الاكتفاء بالشجب وتوصيف الفساد والقمع والترفع عن مد الأيادي لإصلاح ما أفسدته الأنظمة المتعاقبة فهو الخيار الأسهل والأرخص كلفة كما أشرت سابقا.
واللافت أن الديموقراطيين الاجتماعيين لم يخفوا مقاصدهم بل أعلنوا أنه السبيل الوحيد للتغيير والإصلاح السياسي والخروج من حالة الجمود الحزبي الذي لن يأتي إلا عبر الإصلاح من الداخل, هذا الداخل الذي يتوجب الوصول إليه أولا حتي يمكن إصلاحه وبناء عليه أعلن الدكتور إيهاب الخراط عضو الهيئة العليا في الحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي عن تفاصيل الموقف في تبرئة لساحة الحزب قائلا: يشخص كثيرون تشرذم القوي المدنية الديموقراطية بعد 2011 إلي اليوم, بالمصالح الشخصية والسعي المناصب والمكانة.. إلخ. ومن داخل هذه الحركة ومن مطابخها أقول لم تكن هذه هي المشكلة, بل المشكلة كانت ولاتزال فيما أسميه الترفع الثوربدءا بما قيل عن أن الثورة في الميدان مش في البرلمان ولن نؤسس أحزابا في ظل دستور مبارك المعدل انتهاء بما نحن فيه الآن وهو الأكثر كارثية كيف أتحالف انتخابيا مع هذا أو ذاك, واحتفظ الكثيرون بإحساس النقاء والترفع الثوري ولم نبن ديموقراطية حقة, ولم نؤسس جبهة واحدة ثابتة تصلح نفسها بآليات ديموقراطية وتتطور مع تتطور وعي الجماهير الحقيقي, إحساس أن نقائي الثمين يمنعني من الخوض السلمي الشرعي في مستنقع السياسة حتي يتطهر هذا المستنقع بقدرة قادر وبتغير النظام الفاسد إلي صالح بنفسقدرة القادر.
صدق الخراط, فإن ذلك الانزواء المترفع في انتظار لحظة ثورية جديدة لن يصلح وبناءا علي ذلك كانت المشاركة خيار الديموقراطي الاجتماعي, فلا هم من الخونة, ولا سائر الحركات المدنية أكثر وطنية وصلاحا لكنها خيارات ووجهات نظر سياسية ولو كانت الأحزاب اجتمعت علي قلب رجل واحد بدون شخصنة لاختلفت الأوضاع كثيرا الآن لكن خيبتنا في نخبتنا