يجري تداول تعبير “القيادات الدينية” Religious Leadersبشكل واسع منذ سنوات قليلة، وكان هذا الوصف يعني في بدايته رجال الدين من مختلف الأديان، باعتبار أن الرجال هم عماد المؤسسات الدينية، ولكن الآن فإنه يستخدم للإشارة إلى النساء كذلك بعدما تزايد الاهتمام بدور النساء في المجال الديني كداعيات وراهبات وخادمات.
ويمكن القول أن هذا التعبير حل إشكالًا لغويًا، حيث ظهرت الحاجة إلى تعبير موحد يشير إلى المنتمين إلى مختلف الأديان والطوائف، وكذلك حل مشكلة التذكير والتأنيث، فعادة ما نقول رجال الدين ولا نقول بالمقابل نساء الدين (على غرار رجال القانون أو السياسة)، أما القيادات الدينية فهو تعبير محايد جندريا. وكل هذه الأمور مستحدثة. وبشكل عام فإن هذا التعبير (القيادات الدينية) وليد العصر الحديث، حيث يشير Google Ingram إلى أن ظهوره كان بدايات القرن التاسع عشر ولكن ضمن استخدامات محدودة، ثم تنامى بشكل متواتر خلال القرن العشرين، ليصل إلى ذروته في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. ولا أعتقد أن هذا التعبير كان موجودًا في المنطقة العربية إلا مؤخرًا، ربما مع بداية الألفية الجديدة، حيث لعبت التطورات المصاحبة للعولمة وظهور المجتمع المدني، وتنامي الاهتمام بحوار الحضارات في بزوغ وانتشار هذا التعبير على الأقل في بعض الأوساط التي باتت على صلة بالخطاب الكوني التنموي والثقافي.
وليس غريبًا أن يتنامى هذا التعبير خلال القرن العشرين، ويصل إلى ذروته في بدايات القرن الحادي والعشرين، ويمكن تفسير ذلكبمتغيرين أساسيين، المتغير الأول هو التحولات التي طرأت على المجال الديني والخروج من الأنماط التقليدية نحو المأسسة، أي تحول الكيانات الدينية إلى مؤسسات في ظل الدولة الحديثة.
ومن ناحية أخرى اتساع دائرة التفاعل والتواصل مع نهاية القرن العشرين، وبزوغ الحاجة إلى تمثيل ثقافي وديني بين أتباع الديانات والثقافات، والحاجة إلى لغة مشتركة وموحدة، وخاصة في مرحلة حوار الحضارات التي بدأت بنهاية القرن العشرين. وبالتالي فإن تعبير “القيادات الدينية” أصبح له دلالات مؤسسية واجتماعية، ووظيفة تمثيلية، أي تمثيل المؤسسات أو الاتجاهات الدينية في الحوار بين أتباع الأديان.
وشهدت السنوات الأخيرة اهتمام غير مسبوق بدمج “القيادات الدينية” في المبادرات والمشاريع المختلفة سواء من خلال مؤسسات المجتمع المدني أو المؤسسات الدولية.
وقد تعززت جسور التواصل بين شرائح من أعضاء وعضوات المؤسسات والاتجاهات الدينية من ناحية والعديد من المؤسسات والهيئات التنموية والثقافية والسياسية محليًا وإقليميًا ودوليًا من ناحية أخرى. ولا شك أن هذا الحرص يعود إلى الاهتمام الكبير بأفكار التعددية الثقافية والتنوع الثقافي، وبالطبع فإن الأديان محورية في الحوارات الثقافية، ومن ناحية أخرى، فإن الأديان اكتسبت مزيدًا من الثقل السياسي في سياق الحرب على الإرهاب الأمر الذي تطلب مشاركة أتباع الأديان المختلفة في الاستراتيجيات السياسية لمواجهة الإرهاب. وبالمعنى السياسي والثقافي والتنموي، تبنت معظم المؤسسات فرضية أساسية وهي: أن المنتمين و المنتميات للمؤسسات والاتجاهات الدينية لهم ولهن تأثير قوي في الواقع المحلي، وبالتالي لا يمكن تجاهل أدوارهم، ولحد ما أدوارهن، في الجهود التنموية ومبادرات الإصلاح الثقافي.
وفي سياق هذا الدور كان من المنطقي أن يكون لهم ولهن أوصافا قيادية على غرار القيادات الطبيعية والقيادات المجتمعية. وهكذا استقر تعبير “القيادات الدينية”، وحظى بقدر من القبول على الرغم من أنه لا يمت بصلة إلى التراث الثقافي أو الديني المحلي.
وعلى ما يبدو أن تعبير “القيادات الدينية”، كان ملائمًا للوظيفة التمثيلية أي انخراط شرائح من المنتمين والمنتميات للأديان المختلفة فى دوائر حوارات الثقافات والحضارات، أما فيما يتعلق بفرضية القدرة على التأثير، أو القدرة على القيام بأدوار قيادية على المستوى المحلي، فإن الأمر يحتاج إلى وقفة لمعرفة وفهم طبيعة وحدود الأدوار القيادية لهذه الفئات. فثمة ما يشير إلى أن تعبير “القيادات الدينية” الذي يجري استخدامه وكأنه يعبر عن مجموعات متجانسة، لا يعكس الواقع بتعقيداته وتنوعه. فمن ناحية أولى هناك اختلاف فى قدرة وأدوار “القيادات الدينية” حسبالأديان والطوائف والاتجاهات الدينية، ومن ناحية ثانية، فإن تصور أن “القيادات الدينية” تتبنى، أو يمكن أن تتبنى خطابًا دينيًا موحدًا، أمر لم تثبت صحته على الأقل حتى الآن، فالخطابات والقناعات الدينية شديدة التباين حتى داخل الديانة أو الطائفة الواحدة، وبالتالي فإن التأثيرات متباينة وقد تكون متعارضة، فما يقوله البعض قد يناقضه البعض الآخر. ومن ناحية ثالثة، أن المكانة الاجتماعية للمنتمين و المنتميات للمؤسسات الدينية، خاصة في المجتمعات المحلية، تتأثر بشكل كبير بالأوضاع الاقتصادية لهذه الفئات، وهو ما يؤثر بلا شك على المتوقع منهم/نكقيادات دينية، فكيف يمكن لشخص أن يكون قياديا وهو يعيش حياة صعبة وربما يضطر إلى القيام بأعمال أخرى لتغطية متطلبات الحياة. وأخيرا، فإن التحولات الثقافية والقيمية والتكنولوجية لها بالغ الأثر على المؤسسات الدينية، والتي لا يزال الجزء الأكبر منها، أسير الأنماط التقليدية في التواصل والتأثير.
إن جاذبية تعبير “القيادات الدينية” لا يجب أن يعطى صورة غير حقيقة عن طبيعة وحدود وتناقضات الأدوار التي يمارسها أتباع الأديان. فالمجال الديني شديد التنوع من حيث طبيعة الأديان والطوائف، أو من حيث الرؤى والقناعات الفكرية. وقد يمكن لتعبير القيادات أن يكون فعالًا على مستوى التمثيل والتواصل بين أتباع الأديان وعند مستويات معينة، ولكنه لا يكفي لوصف واقع وقدرات الجمهور الأكبر من المنتمين و المنتميات للمؤسسات والاتجاهات الدينية، وخاصة في المجتمعات المحلية، حيث يُطلب من أشخاص أن يكونوا أو يكن قيادات مؤثرة في ظل شروط اقتصادية واجتماعية صعبة.