أسس الآباء الكبار الولايات المتحدة الأمريكية علي القيم السامية, وأقسم رجال عظماء مثل جورج واشنطن وإبراهام لينكولن وتوماس جيفرسون العهد علي الحق المقدس في الحياة, وصون الحرية والكرامة والمساواة لجميع البشر, وحرية الاعتقاد الديني والحقوق الدستورية كلها, يتقدمها حق الاحتجاج السلمي.
أقسموا جميعا علي الكتاب المقدس بوصفه النبع الأصلي الذي أسس للحقوق المتساوية للبشر دون تمييز ودون عنصرية.
منذ ذلك الحين صار أداء القسم علي الكتاب المقدس هو رمز الحفاظ علي مبادئ الدولة المدنية, ودعائمها الراسخة من المساواة المطلقة والحرية.
وإذا كان الشطط في جبروت البوليس أثناء أدائه لمهامه الأمنية قد أدي إلي القسوة المفرطة, فإن الشطط في الغضب قد أدي إلي اندلاع التظاهر في الولايات المتحدة كلها لأيام متعددة, رغم إجراءات العدالة الفورية المطبقة بأقصي عقوبة, التي ينبغي أن تسجل فورا لنهاية الاحتجاج.
فلقد كان كافيا لإطفاء المشاعر الملتهبة ما سارع به الرئيس من إدانة كاملة للجريمة وتناولها علي المستوي الفيدرالي تعبيرا عن أقصي درجات التعامل الرسمي العالي مع الواقعة المحزنة..
علي أن الأمر لا يخلو من مفارقة صارخة يتعين أن نسجلها..
فأولئك الذين انفجروا غضبا لقسوة شرطي شرس وهو يشل حركة مجرم يخشي خطره, ورأوها عنصرية بشعة أشعلت غضبتهم العارمة, هم هم أنفسهم الذين لم تحركهم عنصرية داعش ووحشيتها وهي تنحر رؤوس الأبرياء علي بوابات سوريا والعراق وفي مدقات سيناء ودروب ليبيا وأحراش نيجيريا!!
لكن الشطط في الغضب إذا تعدي إلي تخريب الممتلكات, وطغيان الفوضي, والسلب والنهب, وإشعال الحرائق, وتهديد الأبرياء والعدوان عليهم, لم يعد غضبا في حالة شطط.. فلقد انتقل عندئذ من الغضب المفرط إلي المؤامرة المنظمة والتخريب المخطط.
وأمام هذا الانتقال المروع من الاحتجاج السلمي إلي الجريمة المخططة تنعدم المقابلة بين إدانة الخراب والحريق وإدانة الجريمة.. فإذا كان لا يسوغ حقا إدانة الغضب المفرط بالتفريط في إدانة الجريمة ذاتها فإن هذه المقابلة تسقط تماما أمام المؤامرة المنظمة والتخريب المخطط سلفا..
وأية محاججة تتحصن بأن الضغط الشديد يولد الانفجار, ومن الظلم وانعدام العدل أن نذهل ونندهش من حجم الانفجار ولا نذهل ونندهش من حجم وبشاعة العنف الذي أودي بقتل الضحية, فإن ذلك صحيح حقا إذا اندلع الانفجار تعبيرا عن الغضب لأجل عدم المساس بالحق في الحياة, ولأجل كرامة الإنسان..
أما أن يشتعل الغضب لينكل بالحقوق المقدسة التي انفجر أصلا ليدافع عنها, فهنا قد اندلع التخريب المخطط في اتجاه مغاير جذريا لكونه غضبا نبيلا متفجرا لأجل كرامة الإنسان.
فلا يمكن أن تغضب لكرامة الإنسان وأنت تدوس كرامة الإنسان.. ولا يمكن أن تنفجر وأنت تدافع عن الحقوق فتحرق في انفجارك كل الحقوق, الأمر هنا قد تعدي تماما كونه غضبا مشروعا, وانقلب انتهاكا لكل الحقوق المشروعة..
فالغضب المشروع هو الذي ينفجر للمطالبة بالعدالة, والمطالبة بقانون تعاد صياغته ليمنع أي جبروت إجرامي وأي افتراء وحشي..
ذلك هو الغضب المقدس المشروع..
ذلك هو الغضب الدستوري بمقتضي القانون..
لكن المشهد لم يكن كذلك في تطوره الخطير..
بدأ احتجاجا سلميا ينفجر في الولايات كلها له دواعيه ومشروعيته, وسرعان ما ظهرت دلائل في غاية الخطورة لتصنع واقعا جديدا مروعا, يؤسس لعهد جديد تماما في الولايات المتحدة الأمريكية:
* ظهرت جماعات ملثمة أطلقت علي نفسها أنتيفا تثير الذعر والبطش والعدوان..
* ارتفع علم داعش المرعب في شوارع المدن المنكوبة..
* وقفت جماعات تنادي: تكبير تكبير في شوارع لوس أنجلوس وغيرها..
* وقف مجهولون بعلامة رابعة العدوية الإخوانية في وعيد سافر..
* توافدت جموع محتشدة في مركبات تنقلها إلي داخل مدينة مينيابوليس من خارجها لإعمال الفجور والخراب والدم..
*ضبطت باكستانية أو ما أشبه داعشية تعلمت في جامعات أمريكا وخطيبها يوزعان زجاجات المولوتوف لإعمال الحرق والنار في المباني والممتلكات والناس..
* ذاعت وسائط إعلامية تعلن محاضرات دواعش وإخوان في مدن عديدة يبشرون بأن أمريكا يلزم ألا يكون فيها دين غير الإسلام, ولابد من إبادة أي دين آخر, وأن أمريكا لابد وأن تكون دولة الخلافة والشريعة وسحق الأغيار..
* اشتعل الحريق في الكنيسة التراثية الأثرية التي صلي فيها كل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية بجوار بيت الرئاسة, في تعمد قاطع لإعلان إسقاط القيم التي أسست أمريكا, وإقامة عصر جديد بقيم جديدة تتأسس علي سفك الدم والعنصرية وإبادة الأغيار.. باسم إله آخر متوحش قاتل غير إله الفضيلة السامية والحرية والمساواة..
* بات المشهد فارقا تماما بين ذلك العهد الذي مضي لمجتمع إنساني متقدم, والعهد الجديد القادم الذي يسود فيه إله الدم والسيف والعنصرية..
وتكاثفت في المشهد عوامل مهولة للتدمير والخراب:
* فلقد كشفت الأوبامية بصفاقة عن امتلاكها أوراقا جهنمية في مشهد التخريب للقبض علي ناصية قفز الديمقراطيين علي الحكم مهما كان الثمن, وبدت الماكيافيلية حقيقتها العارية للعربدة السياسية لإقصاء الترامبيين, كما شوهدت الترامبية وهي تحاول منهكة أن تصد السهام..
* واحتد الاستقطاب الخطير بين اليمين المتطرف المناصر للجمهوريين وترامب من ناحية, واليسار المتطرف الانتهازي الذي لا يتورع عن إشعال الحريق لاعتلاء سدة الحكم وتمكين الإجراميين الجدد من ناحية أخري, واتسعت الفجوة لتنذر بالخراب..
* واشتعل فتيل جماعات الضغط بمسعي مفضوح لقصم ظهر أمريكا وتفتيت تماسكها, حتي خرج وزراء دفاع ورجال حكم سابقون, يعملون حاليا لحساب جهات أجنبية يدعون علي الرئيس تقسيمه للبلاد, بينما أياديهم القذرة تفعل ذلك في العلن والخفاء..
* برز الوجه القبيح للمهاجرين الجدد ولاجئي الدواعش والإخوان والفوضي يهدد علي نحو صفيق دعائم الحضارة الغربية في أمريكا بكراهية طافحة, وإرادة صارمة للتدمير..
وبدا واضحا أن المجد المنهار لأمة واحدة تنصهر فيها كل جنسيات المهاجرين بولاء نهائي حاسم تحت العلم الأمريكي يستبدل الآن بتشرذم واسع تتحصن فيه كل فئة دخيلة بقيمها الأصلية المضادة جوهريا وفعليا لكل القيم السامية التي تؤول الآن للسقوط, والتي صنعت المجد الأمريكي المهدد بالانهيار.. وظهر جليا أن الأمة القوية التي صهرت التنوع سابقا تئن الآن بشدة تحت شراذم المهاجرين..
* طفا علي السطح ذلك التحول الباطن من مجتمع الطهارة السياسية الذي يحاسب المخطئ ويقوم المعوج إلي مجتمع الفساد السياسي الذي يحابي الخائن ويبرر الأثيم.. وهذه الخيانة وذلك الإثم هما الآن طعنتان غائرتان في الجسد السياسي الأمريكي..
* ران علي المشهد التشوه الذي أصاب الليبرالية الأمريكية العتيدة, التي طالما كانت رائدة التماسك المجتمعي الأمريكي, والضامنة لرقيه وإنسانيته, فتراجعت قوتها وقدرتها علي قيادة الأمة نحو الاتحاد والرفعة, واستبدلت بليبرالية انتهازية تمكنت في غفلة من العهد والتاريخ أن تحتل مكان الليبرالية النبيلة الغابرة..
* وبدلا من خروجه علي الناس لمؤازرة تماسك الدولة واستقرارها وتعافيها الآمن من المأزق خرج أوباما عليهم يدعوهم للاستمرار في العصيان والتمرد والفوضي والتخريب والعدوان والسلب والنهب والحريق.. لأجل أن يصنع الغوغاء والسوقة والرعاع وأرباب الكراهية والشر التغيير المطلوب؟
متجاهلا تماما أن الأمة الديموقراطية العتيدة لا تقبل التغيير إلا بعملية ديموقراطية دستورية سليمة, وأن تضميد الجراح الإنسانية للمضارين لا يمكن أن يستحيل وسيلة رخيصة لكسب الانتخابات لحزبه.
وظهر جليا أن أوباما لم يحتجب عن المشهد السياسي إلا ليخرب من الداخل, وفي الخلف الأمة الأمريكية, تخريبا مروعا بأسلحته المسمومة والتمرد الأقلياتي, والعنصرية الوافدة في الإخوان والدواعش, والإلحاد المعادي للدين كله في الإلحاديين الجدد..
* وجاءت الطامة الكبري في إخراج حادث الاعتداء الأمني الفاحش في ظروف ضبط مجرم وشل قدرته علي مواجهة الشرطة أو الإفلات منها أو قتل أفرادها.. إخراج الحادث من إطاره القانوني والحقوقي والإنساني, ومن حق الاحتجاج السلمي عليه للجموع الإنسانية الغاضبة, إلي الانتهازية السياسية والاستقطاب الحزبي والاستغلال التآمري الخائن.
* وكان واحدا من أكبر الانهيارات وأخطرها رمزية علي الإطلاق ذلك الحريق العمدي الذي أضرم النار في الكنيسة التاريخية التي يؤمها كل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية إلي جوار بيت الرئاسة..
لم يكن مجرد حريق في كنيسة كحرائق الكنائس التي أشعلها الإخوان والسلفيون بمصر إبان اضطرابات رابعة والنهضة, أو أية أحداث عمدية مدبرة..
وليس يقارن بحرائق الكنائس المصاحبة لجرائم الإبادة الجماعية التي تقترفها بوكوحرام في نيجيريا كل يوم..
كان حريقا لإطلاق شرارة الكراهية المندلعة من صدر الداعشية السافرة والتأسلم السياسي لتشعل النار في القيم التي أقامت الحضارة الأمريكية..
صدرت هذه القيم تاريخيا مرتبطة بالمبادئ الإنجيلية التي أسست للعدالة والمساواة وحرية الاعتقاد الديني, كما أسست للحقوق المقدسة في الحياة والكرامة, وللطابع الإنساني المطلق للدولة التي انصهرت فيها كل الأعراق لا تعرف سوي المواطنة الأمريكية..
كان حريقا يعلن عهدا جديدا تتآكل فيه دعائم الدولة المدنية لترتفع فوق رمادها الأسود دعائم الداعشية الإخوانية والتأسلم السياسي..
وقد حاول الرئيس في ظهور بائس مضطرب أن يتشبث بالرمز, فخرج أمام الكنيسة ممسكا بالإنجيل ليعلن للكافة أن الدعائم التي أقامت الدولة الأمريكية لا تزال قائمة, وأن روح الحضارة الأمريكية هي روح الإنجيل.. وأن مبادئ الإنجيل هي روح الحقيقة لحرية الأديان كلها.. الروح الوحيد الضامن لأمريكا أمة موحدة تحت اللـه, ينتفي فيها التمييز الديني والتفرقة العنصرية, وتنعم في ظلالها الأديان كلها بمساواة مطلقة..
أمسك بالإنجيل رمزا للدفاع عن حق الأديان جميعها في الحرية والمساواة المطلقة علي الأرض الأمريكية..
لكنه فعل ذلك للأسف وفي خلفيته الكنيسة محترقة, وفي ظهره طعنة نجلاء من تصريحات خائنة مغيبة لم تدرك الرمزية الخطيرة في الحدث وراحت تدينه.
ولقد تعزز الرمز الصارخ لسقوط دولة قيم الإنسان الخالدة برمز صارخ آخر غشي شوارع نيويورك -بما هي عليه من مركز المال والأعمال في أمريكا- التي رغم وفرة المساجد فيها خرجت السلفية الداعشية إلي الشوارع متذرعة بتأدية صلاة الغائب, بينما هي تردد صدي أعلام داعش وعلامة رابعة المرفوعة في العاصمة واشنطن.
فإذا قال قائل هذا هراء.. لأن أي تحليل يعظم من تأثير الدواعش والسلفيين والمتأسلمين السياسيين في الأحداث الراهنة بأمريكا قد ضل سبيل التعقيدات الهائلة التي تراكمت وعبأت المناخ بتهديدات متأصلة حتي جاءت حادثة فلويد الوحشية كالقشة التي قصمت ظهر البعير.. وما الإحالة إلي الدواعش والسلفية والتأسلم السياسي سوي فوبيا واردة من مناطق الحريق العربي.. والشرق الأوسط التعيس..
لكن هذا القول البراق بمنطقه السليم الظاهر يخدع حتما إذا تفحصنا الحقيقة التاريخية للصعود الإخواني الداعشي في أمريكا:
* إن تدفق الإخوان منذ خمسينيات القرن الماضي إلي أمريكا كان محفوفا بالحلم الساكن في الأعماق حتي النخاع.. حلم الخلافة الداعشية وأعلام الفرز العنصري ترفرف عليها..
* وانتشار الجماعات السرية الداعشية رويدا رويدا في الخفاء الأمريكي ظل يتصاعد في بطء وتمكن..
* وامتلاك المراكز الحساسة في الجامعات ومعاهد التكنولوجيا, والمواقع السياسية والحزبية كان سعيا فاعلا.. وامتلاكا حقيقيا..
* وجاءت التقنية العالية في صدمة البرجين العتيدين بنيويورك لتشي بالدعم التقني المتقن الذي قدمته الإنتلجنسيا الإخوانية المختفية تحت أرض التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة..
* وكانت الفترة الأوبامية هي الفرصة الذهبية لاختراقهم البيت الأبيض, وامتلاكهم كل السفارات الأمريكية في العالم أجمع ليحجبوا أصحاب جميع الديانات عن الوصول لأمريكا, عدا أولئك الذين يشكلون دعما علي الأرض للدواعش والإخوان الذين سيطروا علي البيت الأبيض..
نعم.. عددهم لا يزال لا يتجاوز 5% من التعداد السكاني الأمريكي لكن ثقلهم الحقيقي يتجاوز ثقل 50% من التعداد..
ويتوطد هذا التأثير الهائل بقدرتهم الاستثنائية علي التنظيم الخفي, والدعم المستتر الذي يقدمه الإخوان العالمي والداعشية الدولية, وقدرتهم اللامحدودة علي إحلال الفراغ الإلحادي لدي الإلحاديين الجدد.. لما في العقيدة الداعشية من إغراء قاهر بالسيف وسفك الدماء والعنصرية سبيلا لسيادة العالم, وتواؤمهم المذهل مع الديموقراطيين الانتهازيين الغارقين في الأوبامية الخائنة المتحالفة مع أنتيفا الإجرامية والجماعات الفوضوية والليبراليين واليساريين الجدد, وبعض الأجهزة التنفيذية التي تعامت في الانحياز ضد وطنها.. الذين اختطفوا المظاهرات السلمية إلي معركة انتخابية خسيسة تبحث عن فوز لئيم علي آثار التخريب والدم والحريق وإسقاط المجد الأمريكي العتيد..
هاربون إلي نعيمها.. لكنهم عامدون إلي القضاء عليها كأنها لا تحملهم علي أرضها ولا تمنحهم الحياة الرغدة.. فإذا ما دانت لهم فإن أقصي أحلامهم أن تكون علي مثال البداوة الصحراوية: بالخلافة دولة, وسفك الدماء شريعة, والثيؤقراطية السياسية عقيدة, والسيف والعنصرية دينا, وبول البعير ترياقا.. الحلم الداعشي الأبدي..
إن أستاذية العالم القطبية الإخوانية إذا تركت هكذا لتطغي وتتمدد سيقدر لها في وقت وجيز قادم أن تنفجر من أمريكا إلي الأرض الممهدة المسواة الآن في مناطق حاكمة من العالم, علي الأخص كندا والقارة الأوربية وستفتح عندئذ كوي الشر وينابيع الضياع ليغمر الطوفان أمريكا والعالم.. حيث لن يكون هنالك فلك للنجاة..