أنطون سيدهم .. وقضايا التعليم
في ظروف معينة, وتحت مظلة شعارات رآها الحاكم ضرورة لتثبيت حكمه, تقررت منذ حوالي ثلث قرن مجانية التعليم الجامعي, وقد استمرت هذه السياسة حتي الآن, بالرغم من تغير الظروف, واحتياجات البلاد, ولا يصح أن تصبح الدول عبيد سياسات وشعارات معينة, بل يجب أن تتطور وتتغير أساليبها, بما يتلاءم مع المتغيرات المختلفة التي تطرأ عليها.. فقد تغيرت مصر منذ هذا التاريخ, وتبدلت ظروفها جذريا: اقتصاديا, واجتماعيا, وزراعيا وصناعيا.
لقد انتشرت الصناعات في طول البلاد وعرضها, سواء كان بعضها ناجحا والبعض الآخر يتأرجح بين الفشل والنجاح.. وتبعا لذلك اختفت طبقات وظهرت طبقات أخري.. فقد قضت قوانين الإصلاح الزراعي علي طبقة كبار الملاك, وظهرت مكانها طبقة صغار المزارعين, كما أن العمال الصناعيين أصبحوا مجموعة كبيرة مؤثرة في الحياة السياسية للبلاد
إن الطبقات الفقيرة, والتي كان المثل الأعلي لديها هو خريج الجامعة, وبالتالي الموظف الحكومي, أقبلت بنهم علي إرسال أبنائها إلي الجامعات, حتي ضاقت بهم الكليات المختلفة, مما اضطر الحكومة إلي إنشاء جامعات أخري بالأقاليم -محولة المدارس الفنية إلي كليات, وكانت هذه هي الغلطة الكبري التي قضت علي وجود فئة متميزة من العمال الفنيين المؤهلين, والذين هم عماد الصناعة.
إن تدفق الشباب علي التعليم الجامعي بشتي أنواعه, أتخم البلاد بخريجي الجامعات الذين لم تر الحكومة بدا من تعيينهم في وظائف لا تتناسب مع دراساتهم, أو بدون عمل في بعض الأحيان, مما حمل ميزانية الدولة عبئا قاسيا, وفي نفس الوقت بمرتبات منخفضة لا تكفي اللوازم الضرورية للحياة, كما قل الإقبال علي ممارسة العمالة الحرفية, فأصبح وجودها نادرا وأقل كفاءة, وارتفعت أجورها ارتفاعا كبيرا, كالسباك, والنجار, والمنجد, والمكوجي, والميكانيكي وخلافه.
إن التخلخل العنيف الذي حدث لمجموعة العمال الحرفيين والزراعيين, والتضخم الكبير في خريجي الجامعات, أدي إلي ثورة في أجور الأول, وهبوط شديد في مرتبات الآخرين, مما جعلها في ضنك وفقر وخصوصا أن تكاليف المعيشة ارتفعت بجنون, والنتيجة الحتمية لذلك هو ظهور الكثير من الانحرافات في المجتمع.
يجب أن يعرف المواطنون أن الشهادة الجامعية ليست السبيل إلي حياة كريمة سعيدة, أو هي الوسيلة للخدمة المثلي للوطن, بل هناك طرق أخري كثيرة تصل بالإنسان إلي المستقبل الباسم الناجح, كما أن المواطن الحق هو الذي يؤدي عمله في أي موقع كان بأمانة وإتقان وإخلاص, وهذا هو الطريق السليم لتقدم بلادنا وازدهارها.
وعلي الحكومة دراسة مجانية التعليم دراسة دقيقة وفعالة, بعيدا عن الحساسيات والشعارات المهلهلة.. إن المجانية قرار سياسي وليس تعديل السياسة بقصر المجانية علي المتفوقين, عيبا نخافه, فينبغي توجيه محدودي الذكاء إلي التعليم الفني أو المهني.. وخصوصا أن خريجيه أصبحوا أكثر دخلا من خريجي الجامعات.. ما دام في مصلحة مصر وتقدمها.