“في أوقات تكتنفها الشكوك وتسودها أجواء غريبة من نوعها كتلك التي نعيشها حاليا، ونزيد خلالها عزلتنا الاجتماعية بهدف تقليل معدل الإصابات بفيروس كورونا المستجد، توفر لنا الأعمال الأدبية المهرب والعزاء والسلوى والرفقة كذلك” …
هذا ما يطلق عليه أدب الوباء فهو موجوداً دائماً، لأن الأوبئة كانت موجودة دائماً أيضاً. وما يميز أدب الوباء، إنه إذا لم يكن نوعاً من التفسير فإنه محاولة لاستخراج المعنى من التجربة الحية للذعر، الرعب، واليأس الذي يصاحب الوباء. ويمكن القول إن وجود أدب الوباء ليس مقصوراً على تحليل الأسباب التي أدت إلى ذلك الوباء – قد لا يكون ذلك حتى هدفاً رئيساً من أهدافه- رواية القصص هي في حقيقة الأمر وسيلة للتذكير بأن العقل لا يزال موجوداً في مكان ما، فالأدب عملية إصلاح تواجه ما يمثله المرض وهو أن العالم ليس لنا.
ومن بين هذه الأعمال الأدبية، رواية “الطاعون” للكاتب ألبير كامو، وتتناول روايته الكثير من أوجه الشبه مع الأزمة التي نواجهها اليوم في ظل جائحة الكورونا، حيث تدور أحداث رواية “الطاعون” في مدينة وهران الجزائرية، لتحكي لنا كيف شهدت هذه المدينة إغلاقا كاملا لعدة أشهر، بالتزامن مع تفشي وباء يودي بحياة الجانب الأكبر من سكانها، وهو ما حدث على أرض الواقع هناك في القرن التاسع عشر. وتتناول الرواية أيضاً دور المسؤولون المحليون في البداية، وكيف كانوا يحجمون عن الإعتراف بالمؤشرات المبكرة المُنذرة بالطاعون، والمتمثلة في جثث الفئران النافقة التي تناثرت في الشوارع.
ويعكس الراوي، الدكتور برنار ريو، في شخصيته تلك البطولة الصامتة الهادئة، التي يبديها العاملون في الفرق الطبية في مثل هذه الحالات. ويقول في أحد مقاطع الرواية: “ما من فكرة لديّ عما ينتظرني، أو ما الذي سيحدث عندما ينتهي كل هذا الذي يجري الآن. ما أعرفه في اللحظة الحالية، أن هناك مرضى بحاجة للعلاج”. في النهاية، ثمة درس يستخلصه الناجون من الطاعون مفاده بـ “أننا نعلم الآن أنه إذا كان هناك شيء يمكن أن يتوق له المرء دائما، ويناله أحيانا، فهو الحب الإنساني”.
وإذا انتقلنا إلى وباء الإنفلونزا الإسبانية الذي اجتاح البشرية عام 1918، سنجد أنه أعاد صياغة شكل العالم، وقاد إلى وفاة خمسين مليونا من سكانه، هذا بخلاف مقتل عشرة ملايين أخرين خلال الحرب العالمية الأولى. المفارقة هنا أن التأثير المأساوي الذي خلّفه الوباء على العالم، بدا باهتا في ظل الأحداث الأكثر مأساوية المتعلقة بالحرب، والتي شكلت مصدر إلهام لعدد لا حصر له من الروايات.
وفي وقت يتبع فيه الناس في مختلف أنحاء العالم قواعد مثل “التباعد الاجتماعي”، وتشهد دول في شتى أرجاء المعمورة عمليات “إغلاق كامل”، يبدو مألوفا بالنسبة لنا الوصف الذي قدمته الكاتبة الأمريكية كاثرين آن بورتر، للخراب الذي خلّفته “الأنفلونزا الإسبانية” في سياق روايتها “حصان شاحب، فارس شاحب” التي صدرت عام 1939. ففي أحد مقاطع هذا العمل، وبعد أن تكتشف البطلة ميراندا أنها مصابة بالمرض، يقول لها صديقها آدم: “الأمور على أسوأ ما يكون، كل المسارح، وتقريبا جميع المحال والمطاعم مغلقة، أما الشوارع فتغص بالجنازات طيلة ساعات النهار، وتكتظ بسيارات الإسعاف طوال الليل”.
وتُصوّر بورتر في عملها، نوبات الحمى التي عصفت بـ “ميراندا” والأدوية التي كانت تتناولها، والأسابيع التي اشتدت عليها فيها وطأة المرض قبل أن تبدأ في التعافي، إلى أن استفاقت على عالم جديد، تشكلت ملامحه بفعل الخسائر البشرية الهائلة الناجمة عن الحرب والوباء.
اللافت أن الكاتبة نفسها كادت أن تفارق الحياة جراء “الإنفلونزا الإسبانية”، وقالت في مقابلة صحفية عام 1963 “لقد تبدلت بطريقة غريبة نوعا ما، استغرق الأمر مني وقتا طويلا، لكي أخرج من عزلتي وأحيا بشكل طبيعي في العالم من جديد، لقد كنت حقا معزولة وأعاني من الإقصاء بكل معنى الكلمة”.
أما الأوبئة التي ظهرت في القرن الحادي والعشرين، مثل تفشي متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد (سارس) عام 2002، وفيروس كورونا المرتبط بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية (ميرس) عام 2012، والإيبولا عام 2014، فقد شكلت مصدر إلهام لأعمال تناولت ما يعقب مثل هذه الأحداث الكارثية، من خراب وانهيار، وما نشهده جراءها من مدن خاوية على عروشها، وأماكن طبيعية يعمها الدمار.
ففي رواية “عام الطوفان” التي صدرت عام 2009، تتناول الكاتبة الكندية مارغريت آتوود، عالم ما بعد تفشٍ وبائي، أدى إلى أن تصل البشرية إلى حافة الانقراض. وتدور أحداث العمل بعد 25 عاما، من فناء غالبية سكان الأرض، بفعل “طوفان دون ماء” تمثل في وباء خبيث “انتقل عبر الهواء، وكأنه يطير بجناحين، ليجتاح المدن كما الحريق المستعر”.
فتصوّر الكاتبة مارغريت آتوود في روايتها “عام الطوفان”، عالما دمره وباء فيروسي، وأبرزت آتوود في روايتها الشعور بالعزلة الشديدة الذي يساور بعض الناجين من أوبئة مثل هذه، من بين هؤلاء – وفقا للرواية – توبي التي تعمل بستانية، وترصد الكاتبة في أحد المقاطع صورتها، وهي تمسح ببصرها الأفق بحثا عن أي شخص في الجوار، وذلك خلال جلوسها في بستان تقتات على ما تزرعه فيه، فوق سطح منتجع صحي مهجور.
وتقول آتوود في هذا المقطع: “لا بد أن يكون هناك شخص آخر قد تبقى.. لا يمكن أن تكون هي الشخص الوحيد الموجود على ظهر الكوكب، لا بد أن هناك آخرين، لكن هل هم أصدقاء أم أعداء؟ وإذا رأت أحدهم، كيف ستتأكد من ذلك؟”. وعبر مقاطع تستعيد فيها ما حدث في الماضي، تشرح آتوود كيف دُمِر التوازن بين عالم الطبيعة وعالم البشر، جراء أنشطة الهندسة الحيوية التي ترعاها الشركات والمؤسسات ذات السطوة والنفوذ، كما تتطرق إلى الكيفية التي ناضل بها نشطاء مثل توبي ضد هذه الأمور.
وفي هذه الرواية، استندت الكاتبة الكندية المتوجسة على الدوام من الجوانب السلبية للعلم، إلى فرضيات تبدو واقعية ومنطقية بشدة، وهو ما يجعل “عام الطوفان” عملا ينطوي على بصيرة استباقية ثاقبة على نحو مرعب. ولعل الجاذبية الشديدة التي يتسم بها “أدب الأوبئة”، تعود إلى أنه يتناول وقوف البشر جميعا في صف واحد متآزر لمواجهة عدو لا يمت للبشرية بصلة. ففي هذا النوع الأدبي، ما من أخيار أو أشرار كما أن الوضع الذي يتناوله الكُتّاب من خلاله، يبدو شديد الحساسية والدقة، ففرص بقاء كل شخصية من شخصيات هذه الأعمال على قيد الحياة، تتساوى مع احتمالات هلاكها سواء بسواء، ومن شأن تنوع ردود الفعل، التي يمكن أن تصدر من الأفراد، إزاء ظروف قاسية مثل هذه، توفير مادة خصبة للكاتب والقارئ على حد سواء.
وفي عام 2014، أصدرت الكاتبة الكندية إيميلي سانت جون مانديل رواية “المحطة الحادية عشرة”، التي تدور أحداثها قبل تفشي أنفلونزا سريعة الانتشار بشكل غير مألوف في العالم، وكذلك خلال فترة تفشيها، وبعد انتهاء هذه الأزمة أيضا. وقد انطلقت العدوى – بحسب الرواية – من جمهورية جورجيا” إذ انفجرت هناك وكأنها قنبلة نيوترونية فوق سطح الأرض” لتزهق أرواح 99 في المئة من سكان العالم.
ووفقا للأحداث، يبدأ تفشي الوباء في ليلة يصاب فيها ممثل يجسد شخصية الملك لير، في المسرحية التي تحمل الاسم نفسه، بأزمة قلبية خلال وقوفه على خشبة المسرح، ونعرف أن زوجته، مؤلفة سلسلة كتب هزلية متخصصة في مجال الخيال العلمي؛ تدور أحداثها على كوكب يُطلق عليه اسم “المحطة الحادية عشرة”. وتظهر الزوجة في الأحداث بعد 20 عاما من بدء الانتشار الوبائي، بالتزامن مع أداء مجموعة من الممثلين والموسيقيين القادمين مما يُعرف في الرواية باسم “أرخبيل من المدن الصغيرة”، مسرحيتيْ “الملك لير” و”حلم ليلة منتصف الصيف”، في مراكز التسوق التي باتت مهجورة في أعقاب الوباء.
وتتناول رواية “المحطة الحادية عشرة”، كيفية إعادة بناء العالم بعد أن يجتاحه أحد الأوبئة، وبدورها تطرح مانديل عددا من الأسئلة في روايتها؛ مثل: من هو الشخص أو الجهة التي يتعين أن توكل إليها مهمة تحديد ما الذي يمكن اعتباره فنا؟ وما هي الشروط التي يؤدي توافرها في شيء ما، إلى أن نعتبره عملا فنيا؟ كيف سنعيد بناء العالم بعدما فُرِضَ علينا الحصار فيه بفعل ذاك الفيروس الخفي؟ وكيف ستتغير الفنون والثقافة جراء الوباء؟
في النهاية يمكن القول، أن كل هذه أسئلة يتعين علينا التفكير فيها مليا، بالتزامن مع تخصيصنا الآن وقتا أكبر للقراءة والاطلاع، وتحضيرنا أنفسنا في الوقت ذاته، لرؤية العالم الجديد، الذي سيبزغ في أعقاب انتهاء محنتنا الحالية.
اما بالنسبة للعالم العربي فهو ليس ببعيد عما يحدث في العالم، وقد قدم لنا عدد من الادباء بعض من الأعمال الادبية التي تتناول مثل هذه الاوبئة مثل ما قدمه لنا “العرّاب” أحمد خالد توفيق ضمن سلسلته الشهيرة “سفاري” حديثاً عن الأوبئة، ما كان حقيقياً منها وما كان متخيلاً، نتحدث هنا عن كتب مثل “عن الطيور نحكي”، و “الموت الأصفر”، فضلاً عن “الوباء” الذي تصاب شخصياته بمرض يجعل عيونها تنزف دماً.
وفى عام 2012، صدرت رائعة الكاتب السوداني أمير تاج السر «إيبولا 76» التي عكست فترة صعبة لتفشى فيروس إيبولا فى عدد من الدول الإفريقية، واستطاع تاج السر وضع بصمته الخاصة فى رواية أكثر واقعية، بأماكن حقيقة وتاريخ حقيقي، جاعلا الفيروس قاتلا بامتياز «وحده إيبولا الذى يرعى فى دم عامل النسيج ودماء الآخرين الذين اقتنصهم من البارحة يعرف ويخطط وينفذ متى ما استطاع، وتدور أحداث الرواية فى عام ١٩٧٦ بين دولة الكونغو وجنوب السودان، وتتحدث عن انتشار مرض الحمى النزيفية الذى يسببه فيروس إيبولا، وتعرض الرواية كيفية انتقال عدوى الفيروس من شخص لآخر من خلال البطل لويس نوا الذى كان يعمل فى احدى مصانع النسيج فى العاصمة كينشاسا، وبسبب خيانته لزوجته ينتقل معه الفيروس الى بلاده جنوب السودان ويصبح، دون ان يدري، جسراً يعبر عليه المرض المميت إلى بلاده.
ولا يمكن أن ننسي رواية الكاتب نجيب محفوظ، التي تحدث فيها عن وباء يضرب القرية ولا يدع فقيرا ولا غنيا إلا ويطاله. الرواية الصادرة عام1977، تسلط الضوء على أسرة فارة من الوباء، ويعود الأب بعد انتهاء كل شيء في القرية سيدا لمن يسكنها من بعد.
كذلك كتاب «الأيام» التي قال فيها عميد الأدب العربي طه حسين مقولته الشهيرة “الحزن كالوباء يوجب العزلة”، فقد امتلأت أعماله بمعانات المجتمع المصري، وكان كتاب «الأيام» عرض لسيرته الذاتية، حيث تحدث في الجزء الأول من ثلاثيته عن انتشار مرض الكوليرا في قريته وموت أخيه الذي كان أمل الأسرة في مستقبل أفضل بسبب هذا الوباء، فكان سبيل العائلة للتحصين ضد هذا الفيروس هو تناول الثوم على الريق كمضاد حيوي ضد المرض. ويمكن القول أن الأمراض والاوبئة كانت مادة خصبة للأدباء والكتاب، فقد استطاعوا أن يتجاوزا هذه الفترات الصعبة بفنهم وكتبهم وموهبتهم واستطاعوا أن يمتعوا المجتمع بأعمالهم التي أصبحت كسفينة النجاة التي نعبر بها الأزمات.