أنطون سيدهم.. والسياسة الداخلية
علام نحتفل بعيد أو بذكري لم تعد ذات موضوع, أننا الآن في عهد نحاول أن نستدرك فيه ما فات وأن نعوض ما فقد, فليس لدينا وقت للضياع ولا مجال للهزل. لقد انتزعنا احترام العالم وتقديره, فلن نقبل أن يبدر منا ما يضحك العالم علينا. ولقد انصرفنا إلي البناء فلا يصح أن نبدد الجهد هباء و,من يضع يديه علي المحراث لا يلتفت إلي الوراء.
اجتمعت يوم الثلاثاء الماضي ببعض رجال الأعمال الأجانب واحتدت المناقشات, ومضي الوقت سراعا قبل أن نستكمل البحث والدراسة ونصل فيها إلي قرار, فرأوا إرجاء الاجتماع إلي اليوم التالي, وتذكرت أنه أول سبتمبر فاعتذرت لهم بأنه يوم عطلة رسمية, وسألوا عن مناسبتها, فما كادوا يعرفون أنها لذكري الثورة الليبية حتي انفجروا ضاحكين..
وحاولت أن أبرر الدوافع السابقة للاحتفال بهذه الذكري, ولكن التبرير لم يشفع لسوق المعاذير عما جري بعد ذلك من أحداث.. من عدوان آثم علي أبنائنا الذين يقتلون بقنابل ومفرقعات العقيد القذافي, وما تقذف بع الإذاعة الليبية أثناء الليل وأطراف النهار من سباب وأكاذيب وشتائم, وسكت القوم, ولم يعقبوا علي ما قلت مجاملة وتأدبا, ولكنني لمحت في عيونهم عدم الاقتناع بما سقت من مبررات ومعاذير, ولعلهم أدركوا أنني أيضا غير مقتنع.
وعاد بي الفكر إلي عهود مضت, وطافت بالخاطر صور عبرت عن ما كان يجيش بها من حماسة وتهليل وتكبير, وما بذلناه فيها من جهد, وما انفقناه لها من مال طائل, ثم كان الانفصام المفاجئ لعري هذه الوحدة بطريقة مسيئة ومهينة, هزت كيان الحاكم فراح ينفث جام غضبه علي هذا الشعب الأعزل المسالم.. وكانت الاعتقالات والتعذيب, والحراسات….
التي ناء الشعب بثقلها وعاني من أوزارها. وفي الوقت الذي كانت فيه سوريا تكيل لنا الاتهامات, وتنهال في هجومها علينا بأقذع العبارات.. في هذا الوقت بالذات فرض علينا الحاكم أن نحتفل بعيد ثورتها واستمر الاحتفال به في الثامن من مارس حتي الآن, إذ تقرر عطلة رسمية لجميع أجهزة الدولة والقطاع الخاص.
وجاءت الثورة الليبية, ثورة الفاتح من سبتمبر سنة 1969, وارتمت هذه الثورة في أحضان مصر, ونادي رجالها بأنها وليدة ثورة .1952 وفي فورة الحماسة قال عبدالناصر للقذافي إنه يذكره بشبابه, وكانت الطامة الكبري, إذ تلقف القذافي تلك العبارة واعتبرها إشارة بوراثته لجمال عبدالناصر, وشطح به الخيال فحلق في دنيا الأوهام, وظن أن تلك الإشارة كفيلة بتبوئه الصدارة في المنطقة وتفرضه زعيما علي الدول العربية, فراح يبعثر أموال البترول علي عصابات الإرهاب والهجوم الكاذب بوسائل الإعلام, وينفقها في سفه وطيش علي المؤتمرات, لعلها تؤدي إلي تحقيق خياله المريض, ولكن خاب ظنه, وطاش سهمه.
وبالرغم مما تواجهنا به سوريا وليبيا من عداء, ومن هجوم بكل وسائل الإعلام… وبالرغم مما يقترفه عملاء القذافي من إرهاب وتخريب يودي بحياة أبنائنا وأطفالنا الأبرياء.. فإننا ما زلنا نعتبر عيد كل من الثورتين عطلة رسمية في جميع أنحاء البلاد.
هل جال بفكر المسئولين ما تقتطعه هاتان العطلتان من الانتاج القومي؟ إن الاحصاءات الرسمية تحدد الدخل القومي بمبلغ 5800 مليون جنيه, وبعملية حسابية يتضح أننا نضحي بانتاج تبلغ قيمته نحو تسعة وثلاثين مليونا من الجنيهات.. فهل هناك حكمة من التضحية بمثل هذا المبلغ في بلد يفتقر إلي الكثير من الخدمات ويعيش أبناؤه في حالة من الضنك والحاجة…؟
ثم كيف يطلب إلي الشعب أن ينصرف إلي العمل والإنتاج, وأن يضاعف من الجهد.. في وقت ترتسم أمامه هذه الصورة من الاستهانة بأيام العمل والتضحية بها من أجل مظاهر خاطئة كاذبة!!
لا أريد أن أعدد هنا ما أنفقناه علي تلك المظاهر الجوفاء, وما فقدناه من أرواح أبنائنا وأقوات أهلينا, وانما ينبغي أن تنعي دروس الماضي جيدا, فإنها لم تترك لنا ما نحتفل فيه بعيد, ولا ما نستعيد به ذكري, إلا ممزوجة بمرارة تغص بها الحلوق, وأحزان تضصرب بها القلوب.
كفي.. كفي عبئا وهزلا..