سر التناول أو الإفخارستيا هو سر من أسرار الكنيسة السبعة، وفيه يتحول الخبز المختمر إلى جسد المسيح وعصير العنب إلى دم المسيح عن طريق طقوس وصلوات معينة يقوم بها الأب الكاهن. وقد أسس السيد المسيح هذا السر بنفسه (لو٢٢: ١٩-٢٠).
ولكن الآن أصبح عقل الإنسان يتحكم في كل شيء. والمسيحية لا تلغي عقل الإنسان لذلك نجد أن هناك ثلاثة أسئلة تدور في العقل بخصوص هذا السر وهم:-
١/ لماذا لايرى الإنسان التحول الذي يحدث للخبز والخمر بعينيه حتى يؤمن أو يذداد إيمانه؟
٢/ لماذا أمرنا السيد المسيح أن نشرب دمه في حين أن الله حرم على الإنسان شرب الدم في العهد القديم؟
٣/ إن كان الجسد والدم هما للسيد المسيح فلماذا نأخذ جسد المسيح منفصلا عن دمه؟
أولًا/ لا يرى الإنسان بعينيه التحول الذي يحدث للخبز وعصير العنب لأن الله أراد أن يخلق مجال إبصار معين للإنسان، فالجميع يعلم أن ملايين الكائنات الدقيقة وملايين الكواكب والأجسام السماوية تحيط بالإنسان ومع ذلك لا يراها. فلو رأى الإنسان هذا كله لسوف يصاب بالجنون. لذلك فإن حكمة الله ورحمته تقتضي أن يحجب الله عن الإنسان رؤية كثير من الأشياء على قدر ما يحتمل عقله، فلو إفترضنا أن الإنسان يستطيع أن يرى الخبز وعصير العنب وقد تحولوا إلى لحم ودم فسوف لن يجرؤ أن يأكل أويشرب منهما وسوف يتهمنا العالم أننا من اكلي لحوم البشر . كما أن الله يريد أن يدرب حواس الإنسان الداخلية ويجعله يؤمن بأشياء لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة. فهو يريد أن يرتقى بالعيون الروحية وليست الجسدية ومن هنا يستطيع أن يعيش الإنسان حياة السماء وهو ولايزال على الأرض. ولكن لا أحد ينكر أن هناك قوة خاصة تجري في جسد الإنسان وروحه بمجرد تناوله من جسد الرب ودمه، وهذه القوة ليست إيحاء نفسي أو خيال ولكنها قوة محسوسة وملموسة تحدث لجميع المتناولين على مختلف ثقافتهم وشخصياتهم وطبائعهم. فلو كانت هذه القوة مجرد خيال لكانت تضعف مع الوقت أو كانت تناسب شريحة معينة من الناس (البسطاء فقط). وإننا نلاحظ أن هذه القوة تنعكس على ملامح الإنسان فنجد أن وجه الشخص يصبح منيرًا وتظهر عليه نعمة خاصة. لذلك فإن هذه القوة دليل على أن الذي نأخذه ليس مجرد خبز أو عصير عنب بل جسد الرب ودمه.
وفي النهاية ليس كل ما لا يراه الإنسان بعينيه يعتبر غير موجود، فالإنسان لا يرى البكتريا بعينيه ولكنها موجودة ولا يرى الأمواج الصوتية بعينيه ولكنها موجودة ويمكن قياسها.
ثانيًا/ أمرنا السيد المسيح أن نشرب دمه في حين أن الله حرم على الإنسان شرب الدم في العهد القديم (لاَ تَأْكُلُوا دَمَ جَسَدٍ مَا، لأَنَّ نَفْسَ كُلِّ جَسَدٍ هِيَ دَمُهُ. كُلُّ مَنْ أَكَلَهُ يُقْطَعُ.)(لا١٧:١٤). حتى دم الذبيحة في العهد القديم كان غير مصرح للإنسان أن يشرب منه، لكن في العهد الجديد قال السيد المسيح خذوا اشربوا هذا هو دمي.(كَذلِكَ الْكَأْسَ أَيْضًا بَعْدَمَا تَعَشَّوْا، قَائِلاً: “هذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي. اصْنَعُوا هذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي)(١كو٢٥:١١) وهذا ليس معناه أن الله يناقض نفسه.
لقد صرح الله في العهد القديم حقيقة هامة وهي أن حياة الكائن الحي تكون في دمه (لأَنَّ نَفْسَ كُلِّ جَسَدٍ دَمُهُ هُوَ بِنَفْسِهِ )(لا١٤:١٧)، ومن هنا حرم الله شرب الدم في العهد القديم لأن الإنسان عندما يشرب الدم سوف تنتقل إليه حياة الحيوان من خلال هذا الدم والحيوان ليس له حياة أبدية فهو كائن حي مائت وبالتالي فإن الموت سينتقل إلى الإنسان من خلال دم الحيوان الذي يحمل الموت، لذلك فإن الذبائح الحيوانية لم تكن قادرة على أن تخلص الإنسان وتعطيه حياة أبدية (عب١٠: ١) كما أن شرب الدم له أضرار طبية وأضرار نفسية حيث قد يصاب الإنسان بالتوحش والقسوة.
أما في العهد الجديد فقد أعطانا السيد المسيح وصية أن نشرب دمه لكي تنتقل حياته التي هي في دمه وهي حياة أبدية إلى الإنسان المائت فيطرد من هذا الإنسان كل قوى الموت، وهنا ينتقل الخلود إلى الإنسان من خلال دم المسيح لذلك يقول الكاهن في القداس (حياةً أبديةً لمن يتناول منه).
ثالثًا/ لماذا نأخذ جسد المسيح منفصلًا عن دمه؟
ولماذا عندما أسس السيد المسيح هذا السر فإنه فصل بين جسده ودمه، فقد أعطى للتلاميذ جسده أولًا ثم دمه ( مت٢٦:٢٦)؟ والإجابة هي: على الرغم أن الجسد هو جسد المسيح والدم هو دم المسيح أيضًا، إلا أن جسد المسيح يشير إلى شيء ودم المسيح يشير إلى شيء أخر. فمن خلال دم المسيح نحن نأخذ الحياة الأبدية والخلود كما ذكرنا سابقًا، لكن من خلال جسد المسيح نحن نحصل على حياة الشركة مع المسيح. ذبيحة الإفخارستيا هي إمتداد لذبيحة الشكر في العهد القديم. وكلمة إفخارستيا هي كلمة يونانية تعني الشكر . فذبيحة الشكر في العهد القديم كان يتم ذبحها ثم ينفصل الدم عن جسم الذبيحة ويتم رشه على المذبح ثم يتعامل الكاهن مع جسم الذبيحة. وكانت هذه الذبيحة تُقَدَم للشكر لله في ظروف الفرح والنجاح
(سفر اللاويين الأصحاح الثالث والرابع). وهي الذبيحة الوحيدة في العهد القديم التي يتم من خلالها حياة الشركة بين الله والإنسان فهي شركة بين الله والكاهن مقدم الذبيحة وأخوته الكهنة والشخص صاحب الذبيحة والأهل والفقراء. فكان يشترك فيها الله (نصيب الرب كان الشحم الذي يغطي الأعضاء الداخلية والكليتين) والكاهن مقدم الذبيحة (نصيبه الساق اليمنى) وأخوته الكهنة (صدر الذبيحة) والشخص صاحب الذبيحة وأهله وأقاربه والفقراء (باقي لحم الذبيحة).
وكانت هذه الذبيحة تؤكل في مكان طاهر والذين يأكلون منها يجب أن يكونوا أطهار أيضًا، كذلك ذبيحة الأفخارستيا (الشكر) فهي شركة بين الله حيث هذا الخبز يتحول إلى جسده ويأكل منه الكاهن مقدم الذبيحة (نصيبه الجزء العلوي من الذبيحة والإسباديكون الذي يوضع في الكأس)، وأقدم أخوته الكهنة (نصيبه الجزء السفلي من الذبيحة) إن كان يوجد أكثر من كاهن في القداس وباقي الذبيحة يأكل منها باقي الكهنة والشعب.
وكما أن ذبيحة الشكر في العهد القديم كان يسبقها ذبيحة الإثم وذبيحة الخطية للتكفير عن الخطايا كذلك ذبيحة الأفخارستيا يسبقها سر التوبة والإعتراف.
إذن ذبيحة الشكر في العهد القديم ترمز إلى ذبيحة الأفخارستيا في العهد الجديد.وهي ذبيحة شركة مع الله