6ـ هنا نأخذ الدرس السادس. وهو السير حسب الإرشاد الإلهي.
ما أجمل أن تكون تحركات الإنسان وتصرفاته سائرة تحت الإرشاد الإلهي. هنا يقول ملاك الرب ليوسف خذ الصبي وأمه واهرب إلي مصر. فقام وأخذ الصبي وأمه ليلا, وانصرف إلي مصر وكان هناك إلي وفاة هيرودس.
ولما مات هيرودس, إذا ملاك الرب قد ظهر في حلم ليوسف في مصر قائلا: قم وخذ الصبي وأمه, واذهب إلي أرض إسرائيل لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي ففعل كذلك (مت 2: 13 ـ 21).
إنه يذكرنا بالشعب في البرية, حينما كان تحت قيادة الرب في تحركاته. تقوده السحابة بالنهار, وعمود النار بالليل كان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب, ليهديهم في الطريق. وليلا في عامود نار ليضيء لهم. لكي يمشوا نهارا وليلا (خر 13: 21).
هكذا كان داود النبي أيضا في استشارته للرب, في حروبه وتحركاته.
هنا نذكر أيضا ما قيل عن يعقوب أبي الآباء قبل نزوله إلي مصر لكي يلتقي بابنه يوسف. كلمه الرب في رؤي الليل وقال له أنا الله إله أبيك, لا تخف من النزول إلي مصر… أنا أنزل معك إلي مصر, وأنا أصعدك أيضا (تك 46: 2 ـ 4).
7ـ الدرس السابع الذي نتعلمه من قصة الهروب إلي مصر, هو عدم الشك في وعود الله ومعاملاته.
كان الأمر بالهروب إلي مصر يبدو غريبا, وربما ـ حسب الظاهر ـ لا يتفق مع وعود الله السابقة. الوعود بأنه المخلص, المسيح الرب, الذي يجلس علي كرس داود أبيه, ولا يكون لملكه نهاية (مت 1, لو1) فكيف أن هذا المولود لا يستطيع أن يخلص حتي نفسه, ويضطر إلي الهروب من وجه هيرودس الملك!!
ولكن يوسف النجار, الرجل البار, لم يشك, بل أطاع ليس لنا أن نفحص أوامر الله, ولا أن نشك في مواعيده, بل علينا أن نقبل إرادته الصالحة. وإن كانت حكمته لا تبدو واضحة لنا اليوم, فلابد أنها ستتضح لنا فيما بعد فلنقبلها إذن بالإيمان.
هكذا حدث عندما طلب الله من أبينا إبراهيم أن يترك أهله وعشيرته وبيت أبيه (تك 12:1) وعندما أمره الرب أن يقدم ابنه محرقة (تك 22: 2) إبراهيم لم يشك, بل آمن وأطاع, وهكذا فعل يوسف النجار…
أحيانا كان يخامر البعض شيء من التساؤل. مثلما قال ملاك الرب لجدعون الرب معك يا جبار البأس فأجابه جدعون أسألك يا سيدي: إذا كان الرب معنا, فلماذا أصابتنا كل هذه (البلايا)؟ وأين كل عجائبه التي أخبرنا بها آباؤنا؟ (قض 6:12, 13) وكان جدعون من رجال الإيمان (عب 11:33) إنه سأل, ولكن لم يشك.
8ـ الدرس الثامن في قصة الهروب إلي مصر هو مبدأ الهروب نفسه.
لم يكن هروب الرب ضعفا, وإنما كان حكمة في التدبير الإلهي, وأكبر دليل علي هذا المعجزات الكثيرة التي أجراها في مصر في أثناء هروبه إلي مصر, وهي تدل علي قوته الإلهية.
كان باستطاعته أن يفني هيرودس إذا شاء ذلك, أو أن يضربه ملاك الرب فيموت ويأكله الدود, كما حدث مع هيرودس آخر في أيام الآباء الرسل (أع 12:23). ولكنه لم يفعل, لأن الساعة لم تكن قد أتت بعد لكي يظهر معجزاته في اليهودية, لأنه أراد أن يعطي بلادنا البركة, ويعطي العالم درسا في الاتضاع والاحتمال. وأيضا ليعطينا مثالا عمليا لتنفيذ وصيته التي قالها فيما بعد: لا تقاموا الشر (مت 5: 39) وأيضا…
9ـ الدرس التاسع: هو أن الرب لم يستخدم لاهوته لراحة ناسوته..
إنه مبدأ سار إليه في كل فترة تجسده علي الأرض. كان يستخدم لاهوته لراحة الناس. إنما من أجل راحته الشخصية, فلم يفعل… بل أنه احتمل الجوع والعطش والتعب وإهانات الناس, دون أن يستخدم لاهوته, ودون أن يحول الحجارة إلي خبز حسب إغراء الشيطان (مت 4:3) ودون أن ينزل نارا من السماء لتأكل السامريين الذين رفضوه, حسبما اقترح تلميذاه يعقوب ويوحنا (لو 9: 52 ـ 56). يضاف إلي ذلك..
10ـ الدرس العاشر: إنه كان يخفي لاهوته عن الشيطان.
الشيطان الذي لو تأكد تماما من لاهوته, لكان يعمل علي عرقلة قضية الخلاص, فكان الرب يحيره في كل عمل قوي يدل علي لاهوته, يعقبه تصرف آخر من ضعف ظاهري يحير الشيطان. وهكذا بعد أمجاد الميلاد: من ظهورات الملائكة وإعلاناتهم, ومعجزة الميلاد من عذراء, وتحقق نبوءة إشعياء (إش 7: 14) (إش 9:6, 7).. كان الهروب إلي مصر مناسبا لكي يقيم توازنا مع تلك الأمجاد يحير الشيطان.
وهو درس لنا, كلما نجد ضعفا ظاهريا, يشكك في لاهوت المسيح.
11ـ درس آخر نتعلمه وهو تواضع الرب.
التواضع الذي ظهر في التجسد, وفي الميلاد في مذود بقر, والذي سيظهر فيما بعد في تقدمه لمعمودية التوبة… ظهر أيضا في الهروب من وجه هيرودس… ومن العجيب أن الرب قد سمح أن تسجل في الإنجيل قصة هروبه إلي مصر, دون أن تسجل معجزاته التي أجراها في مصر, والتي عرفناها عن طريق التقليد والتاريخ..
مثلما جعل صلبه يكون علي جبل الجلجثة واضحا لجميع الناس, بينما مجد صعوده إلي السماء, لم يسمح برؤيته إلا لرسله القديسين… (أع 1:9).
إن تواضعه في هروبه هو درس لنا نحن الذين نتباهي بأمجادنا ـ إن وجدت ـ ونظهرها, بينما نخفي ضعفاتنا.
12ـ درس آخر نتعلمه, وهو نهاية أمر خير من بدايته (جا 7:8).
القصة أولها اضطهاد من هيرودس, وقسوة وقتل, وهروب منه إلي أرضها, وإتمام السيد المسيح لرسالته… إذن ينبغي أن لا تتعبنا البدايات إن كانت مؤلمة, إنما ننظر في إيمان إلي النهاية السعيدة بهذه النظرة نري كل متاعب الرسل, وكل آلام الشهداء وكل تعبنا علي الأرض الذي ننساه في الأبدية السعيدة.
13ـ درس آخر نتعلمه من جبروت هيرودس, وجبن بيلاطس. خاف بيلاطس من اليهود, فسلم لهم يسوع الناصري ليصلبوه, بينما قال لست أجد علة في هذا البار وغسل يديه وهو يقول أنا بريء من دم هذا البار (مت 27: 24) (يو 19:6). وكان ذلك جبنا منه لأنه لو أراد أن يطلقه لاستطاع نقارن هذا بهيرودس الذي حينما أراد, أمر بقتل جميع الأطفال, ولم يأبه بشيء ولا اهتم باليهود الذين قتل أطفالهم…
14ـ الدرس التالي, نأخذه من قتل أطفال بيت لحم.
سمح الرب أن يقتلهم هيرودس, وكان قادرا أن يمنعه, كما سمح بهيرودس آخر يقتل يوحنا المعمدان, وكان قادرا أيضا أن يخلصه من السجن ومن القتل. ولكن الرب في كل هذا يهتم بمصيرنا الأبدي, وليس بمجرد حياتنا الأرضية الزائلة.
لقد سمح بقتل الأطفال, ليكونوا باكورة للاستشهاد في المسيحية… باكورة للصليب الذي وضعه أمامه… باكورة تستقبله وتدخل معه إلي الفردوس بعد صلبه.. باكورة للذين لم يتنجسوا مع النساء (رؤ 14: 3, 4).
تقول: وما ذنبهم؟ أقول لا ذنب لهم ولكنها وسيلة لدخول الفردوس من أقصر الطرق في لحظة, بضربة سيف, ينالون إكليلا وينتقلون إلي عالم أفضل, ما أدرانا لو عاشوا, أما كان بعضهم سيخطئون ويسقطون؟!
نقطة أخري أقولها: إن السيد المسيح قد فدي العالم كله ولكن هؤلاء الأطفال ـ وليسامحني الرب ـ قد افتدوا المسيح بموتهم… ماتوا بدلا منه.. فعلوا ما لم يستطع بطرس الرسول فعله الذي قال ولو اضطررت أن أموت معك (مت 26: 35) إني مستعد أن أمضي معك حتي إلي السجن وإلي الموت (لو 22: 33).
بركة هذا العيد, فلتكن مع جميعنا, آمين.