“بعد العشاء أخذ الكأس وبارك وشرب منه وأعطى لهم قائلا:خذوا اشربوا منه هذا هو دمي المسفوك عنكم لمغفرة الخطايا.” هذا هو جوهر الإيمان الذي تحدث عنه قداسة البابا تواضروس الثاني في حواره الأسبوع الماضي على صفحات جريدة وطني، مع الصحفي المخضرم في الملف الكنسي عبر عقود مضت، فيكتور سلامة.
انتصر البابا تواضروس للروح مقابل الحرف فيما يخص الماستير-ملعقة التناول-في حواره قائلاً:لم نفكر في إلغاء الماستير، ولم نناقشه في اجتماعات اللجنة الدائمة للمجمع المقدس، ولكنه أمر وارد… وإن كان التناول بالماستير لم يتسبب في أي إصابة بمرض على امتداد تاريخ الكنيسة، موضحاً أنه في الظروف المرضية يناول الكاهن المريض بدون استخدام الماستير، وفي ظل الظروف المرضية التي نعيشها هذه الأيام يمكن أن يطرح هذا للمناقشة.. فطقوسنا لاتستمد من أفكار، بل مما تسلمناه من الآباء، ومن إرشاد الروح القدس العامل فينا، وليس ثمة ما يمنع من استخدام نتاجات العقل والتطور والتقدم في تسيير أمور كنيستنا، دون المساس بعقائدنا وأساس إيماننا المستقيم.
أثلج قداسة البابا صدري وصدور شريحة عريضة من المسيحيين الذين لايعنيهم التناول بالملعقة أو بدون ملعقة، لكن يعنيهم أن يعود التناول مرة أخرى، كي يحصلوا على الشبع من الجواهر المقدسة في جسد الرب ودمه.. أثلج صدور الذين يعلمون جيداً أن ما من جدال يثور إلا وخلفه عقول تحتاج التنوير، هذا ما فعله قداسة البابا تواضروس..
التنوير.. حقا إنه بابا التنوير وبطريرك الإصلاح الكنسي. وإذا كان للتنوير والإصلاح ضريبة من بعض الجدل واختلافات الرؤي فهي ضريبة يدفعها كل الإصلاحيين ودعاة الاستنارة عبر العصور.
لذلك فإن كل ما كان دائراً من جدل حول الطريقة التي تتم بها ممارسة طقس التناول في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية-استخدام ملعقة واحدة لجميع المؤمنين- تسمي الماستير وإمكانية مساهمة ذلك في نشر فيروس كورونا يسيء للعقيدة وللإيمان، هو جدال صار حالياً غير ذي جدوى لأن قداسة البابا حسمه.
أقدم جداريات ومخطوطات تعلن أن الكنيسة بدأت في استعمال الماستير من القرن التاسع الميلادي، واستخدام الأواني يتبع الطقس ولايمس العقيدة. وبإطلالة سريعة على التاريخ يمكننا حسم الفارق بين الطقس والعقيدة، فتغيير الطقس لايمكن أبداً أن يكون استهدافاً للعقيدة، وعلى من تنازعوا الإيمان فيما بينهم تحت دعوى الحرص عليه، قراءة حوار قداسة البابا.
كما أن الطوائف الأخرى حسمت أمرها في يسر وبساطة إيمانية، حينما أعلن عدد من الطوائف المسيحية-السريان والكلدان- تغيير طريقة التناول لتكون يداً بيد حرصاً على سلامة الشعب، وبالرغم من ذلك يحاول البعض أن يدفع تيار الإصلاح داخل الكنيسة للانصياع للحرف، بدلا من العمل بالروح، والابتعاد عن الإيمان المستقيم النابع من إرشاد الروح القدس للتمسك بالحرف القاتل. بل أنه قد يتسبب في انقطاع بعض المؤمنين عن ممارسة سر التناول، وبذلك يكون التشبث بالحرف مصدراً لزعزعة الإيمان وليس تثبيتاً له لأن الحرف يقتل ولكن الروح يحيي(2كو3:6).
لكن كل هذا تم حسمه بمنتهى الموضوعية والحكمة عبر تصريح قداسة البابا عن استخدام نتاج العلم، هذه هي الاستنارة الحقيقية، إنها الوصول إلى التكامل بين عناية الله والعلم الذي هو نعمة الله أيضا..
أعلم أن البعض سيصف سطوري هذه بالهرطقة، هي ومؤيديها، وسندخل دوامة عنيفة مع من يدعون أنهم حماة للإيمان، بالرغم من أن الله قادر أن يحمي إيمانيه بنفسه ولا يحتاج لوكلاء على الأرض لحمايته، وإلا لكانت أفعالهم اتهاماً لذات الله بالعجز عن حماية ألوهيته، مثلما يفعل دعاة السلفية الجهادية الذين قتلوا الناس وأحرقوا بيوت الله باسم حمايته. أعلم أيضا جيداً أن عقول بعض المسيحيين لم تنج من غزو ثقافة الصحراء، فالذنب ليس ذنبهم، ولكنه ذنب التنوير الغائب، والإصلاح مقيد الأغلال، الذي يحاول قداسة البابا تواضروس فك أغلاله منذ سنوات. فيتسلل النور رويداً رويداً.
وأخيرا ألا ينبغي أن نخرج من دوامة تحدي التنوير وعبادة الحرف لرحابة الروح، حتى تكون لنا القوة والجرأة التي ننتقد بها المكفراتية والمتطرفين من الأديان الأخري؟! فالكتاب يقولها صريحة في إنجيل متى: يامرائي أخرج أولا الخشبة من عينك، وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذي من عين أخيك!(مت7:5)