أجاب السيد المسيح أحد الكتبة الذي سأله عن أعظم الوصايا قائلا: الوصية الأولي في الوصايا كلها هي: إن الرب إلهنا هو الرب الأحد.
فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قوتك.
والثانية هي: أحبب قريبك حبك لنفسك. ولا وصية أخري أكبر من هاتين (مرقس 12: 29ـ31).
ذات يوم طرح أحد المعلمين سؤالا علي الطلبة قائلا: كيف نستطيع أن نميز الخيط الفاصل بين انتهاء الليل وبزوغ النهار؟ فأجاب طالب بسرعة فائقة: عندما نستطيع أن نفرق بين رجل وامرأة, بين شجرة برتقال وعامود الإنارة, بين إنسان وحيوان.
ولكن المعلم لم يقتنع بكل هذه الإجابات, فسأله الطالب: إذا متي نستطيع أن نميز هذا الخيط الفاصل بين انتهاء الليل وبدء النهار؟ ـ أجاب المعلم: عندما أري في كل إنسان أتقابل معه أخا أو أختا لي, وخلاف ذلك سأكون في الظلام مهما كانت الشمس ساطعة ومشرقة. من هذا المنطلق نستطيع أن نبني محبتنا ونري في جميع الناس إخوة لنا, ونتحلي بالشجاعة التي تساعدنا علي النظر في عيون الآخرين, ونتخلص من ظلام الخوف الذي يعتم أعيننا عن رؤية الغير ومعرفة حقيقة ذاته وقبوله, مما لا شك فيه أن هذا التدريب صعب جدا, لأنه لا يوجد إنسان كامل, فالكمال لله وحده, ويجب أن نضع في الاعتبار أننا خلقنا علي صورة الله ومثاله, إذا يجب علينا أن نتخلص من الظلام الذي بداخلنا ونكتسب قبسا من نور الشمس الذي يساعدنا علي قبول الآخر.
فالمجد ليس إلا الجمال, والجمال ما هو إلا الحب, والحب يعني الحياة.
إذا من يريد أن يحيا, يجب عليه أن يحب, ومن يفعل ذلك سيبدو جميلا أمام الجميع, ولكن من ينقصه هذا الجمال النابع من الحب, فلن يكون علي قيد الحياة حقا, وإنما يبدو ظاهرا فقط حيا, كما أننا نري نورا ينبثق من الشخص الذي يحب ويسطع علي محياه.
وفي هذا الصدد نقرأ في تعاليم الآباء بأن الشيطان يستطيع أن يقتدي ويقلد كل شيء يفعله الإنسان, حتي الصوم لأنه لا يأكل أبدا, وعدم النعاس لأنه لا ينام مطلقا, لكنه لا يستطيع أن يعيش فضيلتي التواضع والمحبة, لذا من يريد أن يهزم الشيطان يجب عليه أن يتحلي بهاتين الفضيلتين.
فالإنسان الذي يفقد لغة المحبة بين الناس, لن يستطيع أن يقول شيئا مهما تكلم كثيرا, لأن حقيقة الإنسان الحب, ومن يحب يتسلح بقوة الحق فيما يقول أو يفعل, وسينتصر في النهاية لأن كلامه وأفعاله سيكون لهما أثر علي الآخرين, وكما يقول الكاتب علي أمين: تعالوا نظلل قلاعنا بأشجار الحب, فإننا لم نحصد من أشجار الكراهية سوي الهزيمة والفشل.
إذا…
المحبة تمتلك قوة خارقة الطبيعة بها تستطيع أن تبدل كل شيء إلي الأفضل والأجمل والأنفع, كما أنها الواجب الجوهري والضروري لكل إنسان, ومن لا يعرف المحبة, سيكون مصيره الفشل والضياع, علاوة علي ذلك يجب أن تكون محبتنا غير مشروطة أو مرتبطة بوقت حسب مزاجنا ومصالحنا.
للأسف كثيرا ما نحدد من الذي يستحق محبتنا, ومن له النصيب في اهتمامنا به, لكن المحبة الحقيقية تدعونا ألا نستبعد أحدا, لأن القريب بالنسبة لنا هو كل شخص نتقابل معه, وعندما نزيل المسافة الموجودة بيننا وبين الآخرين, ستظهر لنا الصورة الحقيقية للغير ولن ينتابنا أي خوف أو كوابيس في التعامل مع الآخرين, ومن ثم سنكتشف ملامح الإنسان الحقيقية علي وجوههم, وستصير الأرض كلها فردوسا نتنعم به, وستكتسب الحياة طعما جديدا ومعني مختلفا. نحن جميعا نشكل وجه البشرية المطحون والضعيف والمتألم والسعيد, فكل شخص منا هو لؤلؤة وجوهرة في لوحة العالم, كما أننا جميعا خلايا في الجسد الواحد الذي خلقه الله, وعندما نتحد معا سيتلألأ جمالنا الحقيقي ويسطع في الأفق, ولن يستطيع أي كائن أن يمحوه أبدا.
والمحبة الحقيقية تتطلب منا أن نبتسم وننظر بعطف إلي من يعايرنا أو يتعامل معنا بسخرية, وأن نتحمل من جرحنا بكلامه أو لسانه, ولا نبحث عن عيوب ونقائص الغير, بل نحاول سترها وإن كانت ظاهرة للعيان ونظهر كل ما من شأنه أن يصيره محبوبا, وكلما انطفأت نار المحبة في قلوبنا صرنا كخيال المآتة الذي يسير علي الأرض.
ونختم بالعبارة الرائعة للكاتب والمؤلف الفرنسي جيلبير سيسبرون: أنا أحب… إذا أنا موجود.