فى الأول من يونيو من كل عام – والذي يوافق 24 بشنس في التقويم القبطي– تحتفل الكنيسة القبطية بذكرى مجئ العائلة المقدسة إلى مصر. وتضع الكنيسة القبطية هذه الذكرى المقدسة ضمن أعيادها، فتقيم الاحتفالات الدينية في جميع الكنائس ولاسيما الأماكن التي مرت بها العائلة المقدسة منذ وصولها إلى الفرما – الواقعة على حدود مصر الشمالية الشرقية– حتى وصولها إلى المكان المعروف الآن بالدير المُحرق بأسيوط.
سجل لنا تفاصيل القصة البابا ثاؤفيلس (385 – 412م) البطريرك 23، وقد دون تفاصيلها بتدقيق شديد الأنبا ديمتريوس أسقف ملوي وأنصنا والأشمونين بالكتاب الذي أصدرته المطرانية بعنوان: “رحلة العائلة المقدسة في ملوي وفي كل مصر”.
من حق مصر أن تفتخر عن كل بلاد العالم لأنها أختصت بهذا الشرف العظيم أن تكون زيارة العائلة المقدسة إليها وليس إلى أي بلد آخر. لقد أقامت العائلة المقدسة في مصر نحو ثلاث سنوات وستة أشهر، قطعت خلالها ما لا يقل عن ألفى كيلومتر كان معظمها سيراً على الأقدام والبعض الآخر بداخل مركب شراعي على النيل العظيم. كان عمر السيد المسيح وقت خروجه من بيت لحم حوالي سنة، وفي طريق العائلة المقدسة إلى مصر مرت بشبه جزيرة سيناء، وقطعت 240 كيلومتر حتى وصلت إلى مدينة الفرما واستراحوا بضعة أيام ثم واصلوا السير عبر دلتا النيل إلى مدينة تل بسطة (تبعد مسافة 2 كيلومتر من مدينة الزقازيق) بمحافظة الشرقية وكان وصولهم فى 24 بشنس واعتبرتها الكنيسة أول محطة للرحلة بمصر. مدينة تل بسطة كان بها معبد الإلهة “بسطت”، ومازال بقايا آثار العصر الفرعوني موجودة بالمنطقة. وبالمدينة استراحت العائلة تحت شجرة واستظلوا تحتها أياماً. كان أهل المدينة من الشدة وقساوة القلب فلم يساعدوا العائلة في الحصول على ماء أو طعام!! ما عدا أسرة واحدة كان عائلها رجل تقي يُدعى قلوم أو كلوم أو إكلوم (أى إكليل أو تاج باللغة القبطية) فقد استضافت العائلة المقدسة بضعة أيام.
ثم خرجت العائلة المقدسة لتواصل سيرها إلى مكان آخر فأتجهوا إلى منطقة تُسمى المحمة (حالياً مُسطُرد) ومكثوا بها عدة أيام تحت شجرة. ثم عبرت العائلة المقدسة النيل إلى الضفة الغربية من فرع رشيد واستقلوا مركب شراعي ثم واصلوا السير إلى وادي النطرون (أي وادي الملح، ويُسمى الوادي باسم برية شهيت وهي كلمة قبطية تعني ميزان القلوب)، والمنطقة حالياً عامرة بالأديرة القبطية والرهبان حتى أن عدد الرهبان في القرن الرابع الميلادي بلغ عددهم خمسون ألف راهباً.
بعد ذلك أتجهت العائلة جنوباً وعبرت النيل شرقاً ومرت على القناطر (حالياً القناطر الخيرية)، ومنها أرتحلت إلى مدينة قديمة تُدعى “أون” وهي عين شمس الحالية ثم ذهبوا إلى المطرية. في المطرية أستظلوا تحت شجرة جميز ومازالت الشجرة موجودة حتى الآن وهي معروفة باسم “شجرة مريم”.
بعد ذلك ذهبوا إلى حارة زويلة وأقاموا بها يومين ثم أتجهوا جنوباً إلى أسوار بابليون (مصر القديمة) حيث مكثوا مدة سبعة أيام في المغارة التي توجد الآن في كنيسة القديس سرجيوس (المعروفة عند العامة باسم كنيسة أبو سرجة). وفي منطقة مصر القديمة تقع كنيسة السيدة العذراء الشهيرة باسم “الكنيسة المُعلقة”. تقع في منطقة القاهرة القبطية الأثرية الهامة، فهي على مقربة من جامع عمرو بن العاص، ومعبد بن عزرا اليهودي، وكنيسة القديس مينا بجوار حصن بابليون، وكنيسة الشهيد مرقوريوس (أبو سيفين)، وكنائس عديدة أخرى. وسميت بالمُعلقة لأنها بنيت على برجين من الأبراج القديمة للحصن الروماني (حصن بابليون)، ذلك الذي كان قد بناه الإمبراطور تراجان في القرن الثاني الميلادي، وتعتبر “المعلقة” هي أقدم الكنائس التي لا تزال باقية في مصر. تذهب بعض الروايات إلى أن تلك الكنيسة بنيت على أنقاض مكان احتمت فيه العائلة المقدسة أثناء الثلاث سنوات التي قضوها في مصر هروبا من هيرودس حاكم فلسطين الذي كان قد أمر بقتل الأطفال تخوفا من نبوءة وردته. والبعض يرى أنها مكان لقلاية (مكان للخلوة) كان يعيش فيها أحد الرهبان النساك، في واحد من السراديب الصخرية المحفورة في المكان. جُددت الكنيسة عدة مرات خلال العصر الإسلامي مرة في خلافة هارون الرشيد حينما طلب البطريرك الأنبا مرقس من الوالي الإذن بتجديد الكنيسة. ومرة في عهد العزيز بالله الفاطمي الذي سمح للبطريرك افرام السرياني بتجديد كافة كنائس مصر، وإصلاح ما تهدم. ومرة ثالثة في عهد الظاهر لإعزاز دين الله.
كانت الكنيسة المعلقة مقرا للعديد من البطاركة منذ القرن الحادي عشر، وكان البطريرك خريستودولوس هو أول من اتخذ الكنيسة المُعلقة مقرا لبابا الاسكندرية، وقد دُفن بها عدد من البطاركة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ولا تزال توجد لهم صور وأيقونات بالكنيسة تضاء لها الشموع، وكانت تقام بها محاكمات المهرطقين، وتعتبر مزاراً هاما للأقباط،نظرا لقدمها التاريخي، وارتباط المكان بالعائلة المقدسة، ووجودها بين كنائس وأديرة القديسين أجلاء، فتسهل زيارتهم.
تُعتبر الكنيسة المُعلقة من أهم المزارات الدينية التي تمثل التراث القبطي في العاصمة المصرية القاهرة، وتمثل بموقعها الفريد في حي مصر القديمة العريق نقطة جذب للسائحين، وبخاصة هواة التعرف على حضارة الأديان.
تتوسط الكنيسة المعلقة مجموعة من الآثار القبطية منها “دير مارجرجس”و”كنيسة أبي سرجة” ولكن يظل لها سحرها الخاص، بخاصة أجراسها ذات الرنين الأخاذ، وجوها المسكون بعبق القرن الثاني الميلادي، ويستهل الداخل إليها خطواته بصعود ثلاث وعشرين درجة من السلالم الرخامية، أقيمت على مقربة من أحد برجين شيدت عليهما الكنيسة من أنقاض أبراج حصن “بابليون” الروماني الشهير الذي بناه الإمبراطور تراجان في بداية القرن الثاني الميلادي أثناء الغزو الروماني لمصر. وبرغم مساحتها الصغيرة التي لا تتجاوز 23.5 متر طولاً و185 متراً عرضاً و95 متراً ارتفاعاً إلا أن طرازها المعماري البازيليكي المكون من 3 أجنحة وردهة أمامية وهيكل يتوزع على 3 أجزاء يشعرك بمهابة القداسة، ويضفي على روحك نوعا من السكون المُشمس، قلما يتوافر في معابد ومزارات دينية أخرى. ويوجد في جناح الكنيسة الجنوبي باب صغير من خشب الصنوبر المطعم بالعاج الشفاف يؤدي إلى ما يسمى بالكنيسة الصغرى وهي في الحقيقة مقصورة جانبية مشيدة فوق البرج الشرقي للبوابة الجنوبية للحصن وهي تمثل حاليا اقدم الأجزاء المتبقية من البناء الأصلي للكنيسة. وتقع في الجهة الشرقية من الكنيسة ثلاثة هياكل يطلق على الأوسط منها اسم العذراء مريم وعلى الأيمن اسم القديس يوحنا المعمدان وعلى الأيسر اسم القديس مارجرجس. وأمام هذه الهياكل يوجد عادة حامل أيقونات من الخشب أحدها مطعم بالأبنوس والعاج. ويرجع إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر ونُقش بأشكال هندسية على هيئة صلبان بديعة تعلوها أيقونات تصور السيد المسيح جالسا على العرش.
وقد عُثر بالكنيسة على تابلوه خشبي يرجع إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي عليه منظر دخول المسيح لمدينة اورشليم (القدس) منتصراً.
أنصرفت بعد ذلك العائلة المقدسة وأتجهوا جنوباً حتى وصلوا إلى منطقة المعادي بالقرب من ممفيس في الموقع الحالي لكنيسة السيدة العذراء الأثرية بالمعادي والتي تقع على شاطئ النيل مباشرة. مكثت العائلة المقدسة في هذا المكان فترة تتراوح ما بين عشرة أيام وشهر، ومنها اتجهوا جنوباً في مركب شراعي شرقي البهنسا ومروا بالقرب من البهنسا وعبروا النيل إلى الشاطئ الشرقي وبعد خمسة أيام وصلوا إلى الشيخ عبادة بمركز ملوي الحالية. بالقرب من الجبل الشرقي بين دير أبو حنس والشيخ عبادة يوجد بئر يحمل اسم “بير السحابة” بأنصنا. البئر مصمم بطريقة هندسية فريدة في التكوين الإنشائي والمعماري. عبروا النيل من ناحية بير السحابة إلى جهة الغرب واتجهوا إلى قرية الروضة بملوي ومنها وصلوا إلى مدينة هرموبوليس (أي الأشمونين). بعد أن أقاموا أياماً بمدينة الأشمونين ارتحلوا شرقاً إلى دير أبو حنس حيث استراحوا يوماً واحداً في ناحية يُطلق عليها اسم “كوم ماريا” وهو كوم كبير تبلغ مساحته 19 فداناً. ذهبوا بعد ذلك إلى القوصية قرب أسيوط وفيها أقاموا ثلاثة أيام ثم أتجهوا إلى بلدة “مير” ومنها ذهبوا إلى جبل قسقام حيث يقع الدير المعروف باسم دير المُحرق (تأسس سنة 342م على يد القديس أنبا باخوم أب حياة الشركة الرهبانية)، والذي يضم الكنيسة الأثرية التي أقيمت مكان المغارة التي أقامت فيها العائلة المقدسة.
بعد أن قضت العائلة المقدسة فى دير المحرق مدة ستة أشهر، وكان عمر السيد المسيح وقتها حوالى خمس سنوات، بدأت رحلة العودة التى استغرقت نحو ثلاث أشهر. فمن دير المحرق أتجهت العائلة إلى الأشمونين ثم إلى رأس الدلتا (منف)، إلى المطرية مارة بحى الزيتون الذى به كنيستها الشهيرة باسم السيدة العذراء. وبعد أن استراحت بها بعض الوقت واصلت عودتها إلى الحدود الشمالية الشرقية للبلاد المصرية لتعود منها إلى ناصرة الجليل كما ورد فى أنجيل القديس متى.
هكذا كانت زيارة العائلة المقدسة لبلادنا العزيزة فجراً جديداً شع بالنور على شعبنا، وأفقاً روحياً أحاط بتاريخنا، فنمت شخصيتنا المعنوية وأصبحت الكنيسة القبطية بحق هى القائدة وهى المُعلمة وهى الرائدة. فكانت الزيارة لبلادنا رحمة وبركة، كما كانت أيضاً عزاءً وسلاماً. مبارك شعبى مصر. “مصر” ذو الاسم الحسن فى قلوب المصريين الحقيقيين، مصر الحضارة، مصر النيل، مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية، مصر السبيكة المتكاملة العناصر النادرة، مصر البوتقة التى تمصر كل زائر لها، مصر عزيزة علينا جداً، وستظل عزيزة وغالية لأبناء مصر المخلصين مسلمين وأقباط.
وللحقيقة والتاريخ أود أن أذكر لقد احتفلت مصر فى مساء الثلاثاء 21 أكتوبر 2014 بإفتتاح مشروع مسار رحلة العائلة المقدسة بمصر، وكان ينبغى تكريم العقلية المصرية التى فكرت فى هذا المشروع بكامل تفاصيله منذ عام 2001، فصاحب فكرة هذا المشروع هو المهندس سمير مترى جيد، خبير توظيف التكنولوجيا فى تعظيم المنتج المصرى وحماية الأمن القومى، وقد عرضه على ستة وزراء سياحة وأيضاً على الكنيسة، كما أنه نشر العديد من المقالات فى هذا الموضوع بجريدة “الأهرام ” و”وطني”، كما عقد عدة ندوات بقاعة جريدة “الأهرام” والتى نظمتها جمعية “محبى التراث القبطى”، وكان بالأولى أن تقوم الدولة بتكريم أحد أبنائها صاحب تلك الفكرة المُخلصة!!