لا شك أن الكثير من الممارسات والأفعال غير المألوفة قد تنطوى على خطورة، فمثلا القيام بحركة غير معتادة، أو ارتداء ملابس غير مألوفة أو التصرف بشكل يسترعى الانتباه لغرابته. كل هذه الأشياء قد تثير رود فعل قد تكون عنيفة فى بعض الأحيان لأن البشر عادة يرتاحون للمتوقع والمعتاد. وهذا الأمر معروف وشائعومعتاد. ولكن فى المجال الثقافى والفكرى، فقد تكون المفاهيم والتصورات المعتادة مصدر خطورة لا يستشعرها إلا من يمتلك تفكيرا نقديا ويرفض الاستسلام لما هو شائع ومستقر. وفى الحقيقة أن خطورة الأفكار المعتادة لا تتعلق بكونها صحيحة أو خاطئة، وإنما فى عدم شفافيتها وتحصينها ضد المساءلة. فالأفكار المعتادة عادة ما تكون مستقرة وتبقى معنا لفترات زمنية وتتحول إلى ثوابت ومنطلقات. وتظل كذلك إلى أن يأتى وقت فنكتشف أنها غير طبيعية وأن اعتيادها خطأ. وكثير من الظواهر التى قد تبدو للبعض الآن غير طبيعية وغير معتادة ظلت ربما لأجيال وهى مستقرة بوصفها أمورا طبيعية ومعتادة. فالعنصرية وتصنيف البشر والتنميط والوصم مماراسات كانت ومازلت عند الكثير أمورا طبيعية ومعتادة. وكل هذه الظواهر يتم التعبير عنها بأفكار معتادة، كأن نقول أن الرجال أفضل أو أقدر من النساء، فيبدو أن ما نقوله من طبائع الأمور. ومثل هذه الأمور لا تحتاج إلى برهان لدى من يؤمن بها، فهى كذلك وفقط.
هذا ما نسميه “المسلمات” التى تجعل الأفكار، ومن ثم الممارسات،عادية ومألوفة. والمسلمات تعنى البديهيات، أى الأفكار التى نستقبلها بوصفها حقائق غير قابلة للتشكيك أو الجدل. والبديهى هو الأمر الواضح والجلى والذى لا يحتاج إلى دليل. ولغويا فإن المسلمات والبديهيات من الكلمات التى تحظى بدلالات إيجابية، وربما هذا سبب خطورتها، فالمسلمة من السلم والسليم والسالم، وكله يعنى الجيد والصحيح، أما البديهيات فهى من البديهة أو سداد الرأى حتى بدون برهان أو سبب. فالكلمتان يفترضان السلامة وصحة الرأى وسداده، وكلاهما لا يحتاج إلى دليل أو مبرر، فنحن نسلم بالأمر أو نفرضه وكأنه نتاج نظرة ثاقبة. فمن يسلم بأن الرجال أفضل أو أقدر من النساء يفترض أن هذه الأفضلية وهذه القدرة معطى طبيعى، وبالتالى فإن أى ممارسات تنتج عن هذه المسلمات والبديهيات تكون مقبولة أو مبررة سواء أخذت شكل تمييز أو عنف.
ونعلم جميعا أن المسلمات والبديهيات هى جزء من حياتنا وطريقة تفكيرنا، ولا أعنى هنا مجرد الإيمان بها والاقتناع بصحة أو خطأ أفكار معينة، ولكن أعنى التسليم وعدم طرح السؤال. وهنا مربط الفرس، أى عندما تكون الأفكار فوق مستوى السؤال والمساءلة. وهذا الأمر لا يخص فقط الثقافة الشعبية، ولكنه آفة قد تصيبمعظم الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية سواء كانت دينية أو علمانية، ففى كل هذه الاتجاهات نجد أن هناك ثوابت ومنطلقات (مسلمات) غير قابلة للنقاش، ولكل منها سقف يجب أن يتوقف عنده السؤال، وإذا تخطى السائل هذا السقف أو هذه النقطة قد يتعرض للعقاب إما بوصفه كافر أو متطاول أو خارج على الاجماع أو حتى مختل عقليا.
وثمة أنواع من المسلمات والبديهيات تحافظ على قوتها واستقرارها من خلال سلطة ما قد تكون دينية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى “علمية”، ومهمة هذه السلطة حماية المسلمات والبديهيات وفرضها كمنطلقات وثوابت وجعلها بمثابة محرمات سياسية أو دينية أو اجتماعية. وغالبا ما يكون الخروج على هذه المسلمات من الأمور التى تستوجب العقاب. مثلا عندما يوصف الختان بأنه “طهارة” فيبدو بديهيا ومسلما به، إلى أن تبدأ سلطة الختان فى التآكل، فتبدأ أوصاف الطهارة فى التآكل بالتبعية.ومثال آخر عندما نستخدم عبارة مثل “إزدراء الأديان” فإن هذه العبارة تجعلنا نسلم بأننا أمام فعل ممقوت وغير مقبول، وقد يكون هذا أمرا بديهيا، مع أن العبارة ليس لها معنى محدد، فالإزدراء يعنى ممارسات فكرية متنوعة منها ما يصنف تحت بند الحض على الكراهية ولكن منها كذلك ما يصنف تحت بند حرية البحث العلمى.
إن أكثر ما يقلق هذا النوع من المسلمات والبديهيات هو التفكير النقدى، ولذلك نجد أن هناك عداوة متجذرة بين السلطة الفكرية والتفكير النقدى. إن طرح السؤال يعنى الكشف، إما بهدف التأكد من مصداقية الفكرة أو تعرية هشاشتها. وبالطبع فإن أنصار الثوابت الفكرية يكرهون السؤال النقدى، ويفضلون تحصين أفكارهم بستار المسلمات والبديهيات والتوافق. وهذه هى أزمة الفكر فى مجتمعاتنا، ليس فقط لأن هناك سلطة تريد كبت السؤال، لكن أيضا لأن الثقافة السائدة ترتاح إلى المألوف والمعتاد، وتأنس التوافق، حتى لو كان هذا التوافق مجرد بلادة فكرية. وهناك من يعى هذه العملية السلطوية ويستفيد منها ويوظفها، وهؤلاء تجار فى سوق غير شفاف، سوق المتاجرة بالمسلمات والبديهيات.