نشرت الصفحة الرسمية الانبا مكاريوس اسقف عام المنيا وابوقرقاص على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك منشور يتحدث فيه عن “كيف نسلك في الأوقات الاستثنائية ” حيث كتب قائلاً :
«اِفرَحوا في الرَّبِّ كُلَّ حينٍ، وأقولُ أيضًا: افرَحوا. ليَكُنْ حِلمُكُمْ مَعروفًا عِندَ جميعِ النّاسِ. الرَّبُّ قريبٌ. لا تهتَمّوا بشَيءٍ، بل في كُلِّ شَيءٍ بالصَّلاةِ والدُّعاءِ مع الشُّكرِ، لتُعلَمْ طِلباتُكُمْ لَدَى اللهِ. وسَلامُ اللهِ الّذي يَفوقُ كُلَّ عَقلٍ، يَحفَظُ قُلوبَكُمْ وأفكارَكُمْ في المَسيحِ يَسوعَ.» (فيلبي 4: 4-7)
في كثير من الأحيان تغمرنا الوقائع وتستدرجنا إليها، فندور في فَلَكها، ونفقد توازننا داخلها ونتخبّط، في حين يجب أن نسمو فوقها، أن نخرج خارج دائرتها، أن نطلّ عليها من الخارج، وإلّا فسيمرّ وقت طويل قبل أن نفيق منها وندرك أبعادها وما يجب علينا فعله تجاهها، ونكتشف أنه كان ممكنًا أن نتفهّمها في وقت مبكر ونحتاط لها أو نخفِّف من أذيّتها؛ وهذا يفسّر لنا لماذا تأخرت الكثير من المؤسسات والدول في اتخاذ قرارات فعّالة تجاه بعض الكوارث مثل الأوبئة.. والآن: كيف يمكننا أن نتعامل مع الأزمات أو الأوقات الاستثنائية؟
1- الصلاة والتضرُّع إلى الله:
وليكن هذا عملًا يوميًا مستمرًا، ففي مثل هذه الأوقات يصلّي الجميع إلى الله لكي يرفع عن العالم الوباء والغلاء والفناء والسبي (حيث أَسَر الموت والمرض الملايين من البشر)، وتتعرض البلاد للعديد من المتاعب بسبب المجاعات والتي ينتج عنها الوباء، كما قد يسبب الوبأ المجاعات حيث تتأثر الصناعة والتجارة. وقد استثمر الكثيرون فترة الوبأ في نظم المدائح والإبصاليات ليردّدها الشعب خلال تلك الأوقات، مثلما ألّفوا العديد منها لتُقال في أثناء الحصاد، كما تمت كتابة طلبات البصخة المسائية والصباحية في أزمنة الوبأ لتستمر في الكنيسة من خلال البصخة. علينا كذلك في أوقات المحن أن ننتقل من دائرة النقاش حول أسبابها إلى التفكُّر في بركاتها وعمل الله من خلالها، والتضرُّع إليه حتى لا يهلك البعض فيها، أو يفقد البعض الآخر إيمانه بسببها.
2- السلوك بخشوع واتضاع:
علينا أن نخضع تحت يد الله القوية، لا نخاصمه ولا نتهمه، فقد مرّ ايوب الصديق بهذه الخبرة من قبل، عندما حاول أن يستذنب الله ليتبرّأ هو، ومثله إرميا النبي الذي أراد أن يخاصمه لأنه لم يفهم مقاصده، والقديس أنطونيوس الذي عاتب الله على التباين بين شرائح الناس والذي يأتي كثيرًا لصالح الأشرار، وقد عاتبهم الله على ذلك، فما أبعد احكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء! وفي النهاية قال أيوب الصديق معتذرًا: «ولكني قد نَطَقتُ بما لَمْ أفهَمْ. بعَجائبَ فوقي لَمْ أعرِفها (لم أفهمها)» (أيوب42: 3)، وقال السيد المسيح لبطرس الرسول: «لَستَ تعلَمُ أنتَ الآنَ ما أنا أصنَعُ، ولكنكَ ستَفهَمُ فيما بَعدُ» (يوحنا13: 7).
هو الرب قد تكلم فلنخضع له.. إن محبة الله لنا تفوق المال والطعام والحياة الأرضية وعدّة سنين إضافية نحياها، فلا يكن اهتمامنا محصورًا في الوبأ والمرض والنجاة منه، فإننا جميعًا سنترك هذا العالم -بالوبأ أو بغيره- والمهم هو مستقبلنا الأبدي، فلتكن طلبتنا إلى الله: “اهدنا إلى ملكوتك”. هذا يقودنا إلى:
3- التخلّي عن الأنانية:
أتذكر ذلك الوالي الذي علم بجشع بعض التجار في وقت المجاعة، ومن ثَمّ احتال عليهم بأن أتى بثلاثة من المحكوم عليهم بالإعدام، وقتلهم أمام جمع كبير مُدّعيًا أنهم تجار استغلوا ظروف المجاعة وغالوا في أسعار الحبوب، فإذا بكل تاجر جشع يُخرِج كل ما عنده ويبيعه بسعره الطبيعي؛ ومثلما يوجد أغنياء الحرب، يوجد أغنياء الأوبئة والمجاعات.
في مثل هذه الأوقات يليق بنا أن نُخرِج المخزون لدينا لأجل المحتاجين، وكذلك الأموال والمقتنيات، فتكثر أعمال العطاء والرحمة، هكذا نصح يوحنا المعمدان: «مَنْ لهُ ثَوْبانِ فليُعطِ مَنْ ليس لهُ، ومَنْ لهُ طَعامٌ فليَفعَلْ هكذا» (لوقا3: 11)، ومن ثَمّ فليس من المقبول أن يستولي إنسان على أضعاف احتياجاته ويخزّنها دون النظر إلى الباقين، بما في ذلك من طمع وجشع.. ونحن إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما. ومن هنا يجب ان نفكر في أننا جميعًا جسد واحد.
4- جسدٌ واحد:
نحن أعضاء كثيرة لجسد واحد، نشعر بعضنا بالبعض الآخر، نتقاسم الطعام والكساء والدواء معًا، نستقلّ مركبًا واحدًا، نعين بعضنا البعض لتنجو سفينتنا.. وقد قرأنا عن كثيرين ضحّوا بحياتهم لأجل أن يحيا آخرون؛ لا أطالب بذلك وإنما المشاركة على الأقلّ، فنحيا معًا، أي ليس بالضرورة أن يموت الواحد ليحيا الآخر فنحن نحتاج الواحد إلى الآخر، وإن كان السيد المسيح قد قال: «مَنْ يُهلِكُ نَفسَهُ مِنْ أجلي يَجِدُها» (متى16: 25)، وكم من شخص ضحّى بنفسه لأجل كثيرين فتضاعفت قيمة حياته.
ومن غرائب هذا الوبأ أن صار الشخص يخشى على نفسه من ذويه، ويخشى من نفسه عليهم، فلا يبادر بالاقتراب إليهم، ولا هم يبادرون إليه، وصار كلٌّ منهما يعتزل الآخر لأجل الآخر، حبًا فيه وحفاظًا عليه؛ ربما كان تعبيرٌ غريب عن المحبة.. ولكن أن يفكر الإنسان بمنطق من يقفز من السفينة قبل غرقها، أو ”أنا ومن بعدي الطوفان“، فهو تفكير ينافي البذل والتضحية وتفضيل الآخر على النفس.
5- ماذا فعلت المافيا الإيطالية؟
قرأت خلال الأيام الماضية أن جماعة المافيا تبرعت للحكومة الإيطالية بسبعة مليارات يورو، وكذلك حذت حذوها عصابات البرازيل. وسمعت عن عصابات أوقفت عملياتها بسبب الوباء. بدأت المافيا في صقلية وانتقلت إلى عدّة مدن إيطالية كنابولي وميلانو وغيرها، ثم تجاوزت إيطاليا إلى بلاد أخرى.. المافيا التي قتلت القاضي الشهير چوفاني فالكوني سنة 1992 بعد تكليفه بكشف أسرارها للقضاء عليها، تهتزّ للوبأ وتعاون الحكومة! أي أنه حتى اللصوص تخشّع الكثير منهم، وتذكروا الخير والوطن والمجتمع، وكفّوا عن السرقة. وقرأت عن لصوص تابوا، ومتسولين ساعدوا آخرين، وغيرهم.. في حين تصلّف البعض الآخر وتقسّى قلبه وتاجر بأوجاع الناس. ومثلما أظهر الوبأ أبرارًا كثيرين، أظهر أشرارًا، وهكذا النار تمتحن كل شيء، وهكذا جاء الوبأ لسقوط وقيام كثيرين.
6- الذين تحت نير:
هناك أبطال ظهروا في هذه الظروف وهم يستحقون التقدير، وهم الذين قبلوا حمل النير بفرح. من بين هؤلاء الطواقم الطبية التي أحنت عنقها للمسئولية، فالمنظومة الطبية تتعرض الآن لأزمة غير مسبوقة، فلم يعد الطبيب في أيامنا هذه هو ذلك الشخص المُرفّه الذي يشتهي مكانته الكثيرون، بل المُعرَّض أكثر من غيره للإصابة والموت. وإن لم يكونوا كلهم، فأكثرهم يواجهون الوبأ والمرضى بشجاعة. ولا ننسى الأطباء الذين ضحّوا بحياتهم في هذه الظروف نتيجة مخالطتهم للمرضى، مسلمين ومسيحيين. ومن هؤلاء الذين تحت نير الصيادلة، والذين تُحتّم عليهم ظروف عملهم التواجد باستمرار والتعامل مع الجمهور، ومنهم مرضى بالطبع. والتجار بأنواعهم المستمرّون في عملهم لأنه ضرورة حياتية. والعاملون في محطات الوقود، والعاملون بالنقل، وبالطبع رجال الشرطة، وغيرهم… كل هؤلاء يصعب عليهم التواري هذه الأيام.
7- التفكُّر في الحياة وقيمتها وكيف تنتهي:
هذه السنون التي عشناها وقد تنقضي هذه الأيام، فيمَ قضيناها؟ وهل أرضينا الله فيها؟ وهل نحن مستعدون لتوديعها؟ إننا لم نعد نفرّق إن كانت الحياة هي التي أصبحت رخيصة، أم أن الموت هو الذي أصبح سهلًا، قريبًا، أادنى إلينا من أيّ شيء آخر. جميعنا لا يعرف إن كان سيحيا حتى إلى ما بعد الوبأ، أم سيكون ضمن من يقضي حياته بسببه، والآن يموت كثيرون ممن لم نتوقع موتهم هكذا سريعًا، بل صارت رائحة الموت تحيط بنا. إنه محكٌّ حقيقي للإنسان من جهة استعداده.
8- التوبة الجماعية:
لنهتم بالاستعداد، والتخلّي عن الخصومات، وردّ المسلوب، والاعتراف بالخطية؛ فالتوبة ليس لها موسم ولكن زمانها محدود من جهة، ومن جهة أخرى هناك مواسم تساعد على التوبة، مثل الصوم الكبير وفترات الضيقات والأمراض ولا سيما الأوبئة؛ ومع ذلك فيجب أن يكون الإنسان مستعدًا في كل وقت. ومن المناسبات الهامة في التوبة فترات الأوبئة أو الكوارث الطبيعية بشكل عام، في مثل تلك الأوقات يتصالح الناس، ويردّون المسلوب، ويعترفون بما اقترفوه بحقّ أفراد دون علمهم. ومن بين القصص التي شهدت التوبة الجماعية قصة توبة هل نينوى حيث قاد الملك شعبه في ذلك. كما دعا الكثير من الأنبياء إلى ذلك: «قَدِّسوا صَوْمًا. نادوا باعتِكافٍ» (يوئيل2: 15)، وإلى التوبة نبّه يوحنا المعمدان: «اصنَعوا أثمارًا تليقُ بالتَّوْبَةِ» (متى3: 8)، وفي عقب الحديث عن الكوارث الجماعية نبّه السيد المسيح: «إنْ لَمْ تتوبوا فجميعُكُمْ كذلكَ تهلِكونَ» (لوقا13: 3، 5).
9- الكفّ عن الثرثرة:
الوصية الأهم هذه الأيام هي الكفّ عن الثرثرة، واللغو واللغط، والوعظ والإرشاد، والفتاوى والنصائح، واتخاذ دور الأطباء والصيادلة وأجهزة الدولة، وخبراء الأوبئة، وكأننا وحدنا العالمون ببواطن الأمور! فإنه بسبب سهولة الاتصالات وتعدُّد المنابر، أقام كثيرون من أنفسهم وعّاظًا وأصحاب رسائل ومنذرين! وقد يسأم الناس ذلك، ويرفضون النصح والوعظ، بعد ما أُتخِموا وأصبح من الصعب التمييز بين الغثّ والسمين.. إن الصمت والصلاة وخدمة الآخرين، هو ما نحن في أشد الاحتياج إليه هذه الأيام.
10- إنه أوان الخدمة:
كيف نستطيع أن نخدم في هذه الظروف؟ وكيف نقدّم عملًا تطوُّعيًا؟ تعالوا لنخرج ونشارك إخوتنا المتألمين، الذين يبحثون عن علاج وعن سرير وعن أنبوب أكسجين وجهاز تنفس، الذين شعروا بأنهم معزولون بإرادتهم أو بغير إرادتهم، فصغرت نفوسهم وهم في عزلتهم، ومن ثَمّ يحتاجون إلى المساندة النفسية. خذوا الاحتياطات واخرجوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، للتوعية، لتوزيع المطهِّرات والكمامات، لتطهير المنازل والمؤسسات وغيرها، لإعداد الوجبات، لتوصيل طلبات، لقضاء بعض المصالح للمرضى ولإنهاء بعض الإجراءات. أشعِروا المرضى أن الله موجود، وأن العالم بخير، وأن التقوى لم تنقطع، وأنكم الأحباء لمن بَعُد عنه محبّوه، والأسرة لمن بَعُد عن أسرته.
11- الرجاء:
لنتمسك بالأمل ونشيع ذلك في الآخرين، فإن محبة الحياة والأمل تفيد في العلاج، في حين -وكما أفادنا الكثيرون- أن الإحباط والتعب النفسي يقلّل المناعة، ففي كل مرة يموت البعض ومع ذلك تستمر الحياة بشكل طبيعي، «إنْ عِشنا فللرَّبِّ نَعيشُ، وإنْ مُتنا فللرَّبِّ نَموتُ. فإنْ عِشنا وإنْ مُتنا فللرَّبِّ نَحنُ».
هناك ما يُسمّى بـ”العلاج بالتشجيع“، أرسلوا الآيات والأقوال والعظات الصغيرة، واجروا المكالمات اللطيفة، وأكّدوا للشخص على أنه موضع حبنا واهتمامنا، وأنه ليس مجرد رقم…
12- شكرٌ واجب:
أن نقدم الشكر لله لأننا ما زلنا موجودين، ولم يشأ الله أن نغادر الحياة، في حين ودّعنا الكثيرين في الشهور الثلاثة الأخيرة.. إنها أغلى عطية بين أيدينا، إذ يمكننا أن نعوّض كل ما فاتنا، فإن الموت الذي يحيط بنا من كل جهة ولم يفرّق بين شخص وآخر، ولم يعد للأمر معايير مُحدّدة، ومن ثَمّ فعلينا أن نقول باستمرار: ”نشكرُك يا رب لأنك أتيتَ بنا إلى هذه الساعة…“