الروح المتضع
لأنه هكذا قال العلي المرتفع, ساكن الأبد, القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن ومع المنسحق والمتواضع الروح, لأحيي روح المتواضعين, ولأحيي قلب المنسحقين (إش57:15)
الروح المتضع هو المفتاح الثالث في سلسلة مفاتيح الحياة الناجحة, وهو الذي يكمل الصورة الجميلة, التي تحدثنا عنها في الأبواب السابقة, ولكن قبل أن ندخل في شرح هذا المفتاح, أريد أن ألفت انتباهك عزيزي القارئ إلي أنه لا يمكن أن يمتلك الإنسان مفتاحا واحدا فقط, بمعني أنه لا يصلح أن يكون فكرك منفتحا, وقلبك ضيقا, ولا يمكن أن يكون لك القلب الواسع, ولا تمتلك الروح المتضع, فالثلاثة كما يقولون One Package (مجموعة واحدة).
والحقيقة إن نقص أحد هذه المفاتيح الثلاثة, يعطل مسيرة الإنسان تماما, روحيا, واجتماعيا, وكنسيا. ويعطل أيضا مسيرة المجتمعات, ومسيرة الخدمة, ومسيرة الكنيسة.
والأصعب من كل هذا, إنه إن وجد شخص في موقع مسئولية, صغرت كانت أم كبرت مسئوليته ولا يمتلك هذه المفاتيح الثلاثة, فإنه يعطل كل شيء وينطبق عليه المثل الشعبي: يعطل المراكب السايرة.
وسنتكلم هنا عن المفتاح الثالث وهو الروح المتضع, فالروح المتضع كالطائر, له جناحان, جناح هو العقل المنفتح, وجناح آخر هو القلب المتسع, وبذلك يكون الإنسان سائرا في الطريق السليم.
معني الروح المتضع
إن المدقق في حياة ربنا يسوع المسيح, يجده عمل معجزات.. قدم تعاليم.. عمل مقابلات.. شرح أشياء كثيرة, إلي جانب اللقاءات الفردية, التي تمت بينه وبين تلاميذه, واللقاءات الجماهيرية مثل العظة علي الجبل, لكن ظل المسيح محتجز درسا لكي ما يعلمه لتلاميذه في النهاية, فقبل الصليب بساعات قليلة, أحضر تلاميذه وغسل لهم أرجلهم! وأرجوكم أن تعيشوا معي في هذا المفهوم, لماذا لم يقم المسيح بهذا العمل في بداية خدمته؟ ولماذا بعد ثلاث سنين من الخدمة العلانية يقوم بغسل أرجل تلاميذه؟
ذلك لأن هذا أهم درس عند الإنسان الذي يخدم بصفة عامة, وليس خدمة الكنيسة فقط, فالذي يخدم يجب أن يمتلك الروح المتضع.
السيد المسيح انحني..! وكنيستنا تعلمنا هذا الدرس في قداس اللقان يوم خميس العهد, حيث تقوم بعملية رمزية وكأننا في محضر هذه القصة, عندما انحني المسيح وغسل أرجل تلاميذه.
فلا يجب أن تفارقك هذه الصورة يا خادم المسيح, ويا من أنت مسئول في أية مسئولية, كبيرة كانت أم صغيرة, علي نطاق الأسرة أو الرعية, فلا تنس هذا الدرس القوي: المسيح انحني وغسل أرجل تلاميذه.
وعندما امتنع أحد التلاميذ وهو بطرس, الذي كان دائما مندفعا, قال له الرب يسوع هذه العبارة الجميلة: لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع, ولكنك ستفهم فيما بعد (يو13:7). بمعني أنك ستفهم قيمة هذا الدرس بعد قليل.
ولذلك دائما أقول, إن الكنيسة ليست بها عملية الترقية إلي فوق, مثل أن تترقي من موظف إلي رئيس قسم إلي مدير إدارة إلي.. فهذه ترقية العالم.
أما المفهوم الروحي للترقي في الكنيسة وفي الخدمة فهو أن تنحني حتي الأقدام, فإن كنت خادما مثلا وأصبحت أمين خدمة, فيجب عليك أن تنحني أكثر وأكثر, وهكذا.. فأول درس يشرح الاتضاع هو الدرس الأخير الذي قدمه المسيح قبل الصليب.
في الرب يسوع تظهر ليس فقط القدرة الإلهية التي من دونها لما كنا في الوجود, بل والمحبة الإلهية أيضا, التي من دونها لكنا قد هلكنا جميعا (لوقا19:10).
هذا التواضع علامة المسيح -كما يقول القديس أغسطينوس- هو تواضع ابن الله, تواضع المحبة, ولابد من اتباع طرق هذا التواضع الجديد, لكي نمارس وصية المحبة الجديدة (أفسس4:2, 1بطرس3:8-9), حيث التواضع هناك المحبة, كما يقول أغسطينوس.
الدرس الثاني: هو عبارة قالها القديس مارأفرام السرياني تقول: كما أن الجسد يحتاج إلي ثوب, كذلك النفس تحتاج إلي رداء التواضع, فالذي لا تستطيع أن تفعله بجسدك, لا يجب أن تفعله بنفسك, فالنفس التي بلا ثوب الاتضاع هي نفس عارية, وتخيل مقدار الخجل والخزي الذي يلاحق مثل هذا الإنسان ذا النفس العارية.
والقديس الأنبا باخوميوس أب الشركة, سأله أحد تلاميذه قائلا: ما هو أفضل منظر يمكن للإنسان أن يراه؟ فأجابه القديس قائلا: إن رأيت إنسانا مواضعا بقلبه, طاهرا, فهذا أعظم من سائر المناظر.
بمعني أن صورة الإنسان المتضع الطاهر النقي, أفضل المناظر التي من الممكن أن تطالعها علي الأرض! فالاتضاع هو شكل يخرج من جوهر الإنسان, وما أجمل أن يكون هذا الإنسان المتضع له أيضا الفكر المنفتح والقلب المتسع, فمثل هذا الإنسان من ناحية لغة العالم نستطيع أن نقول إنه إنسان سوي, ويكون بمثابة نجم لامع في السماء. القديس يوحنا الدرجي, وهو أحد آباء البرية, قال عبارة قصيرة, ولكنها قوية جدا, فقال: في الاتضاع الشفاء من الأوجاع, وكلمة الأوجاع تعني وجع الخطية, والأفكار الشريرة, وسوء الظن والنية الخبيثة, وأيضا الغموض الذي يوجد عليه الإنسان.. إلخ.
فوجع الخطية يعطل الإنسان, ويجعل علاقته مع غيره سيئة, وهناك مثل لطيف يقول: إن من يجلس علي الأرض لا يقع.