يؤدي وباء كورونا الآن إلي تقوض أسعار النفط العالمية, ويبدو المشهد كأنما صناعة الطاقة العالمية بحاجة ماسة لتحقيق وفورات أو استقطاعات إنتاجية مؤثرة.
ويوجد إدراك جازم بأن فيروس كورونا قد حطم الطلب العالمي علي الوقود البترولي السائل جراء قيود الحركة المفروضة علي قطاع النقل العالمي بكل دولة, بدءا من النقل علي الطرق وانتهاء بالنقل الجوي, وليس قطاع النقل وحسب, بل قد تهاوي الطلب علي نحو شامل بسبب تعطل أغلب الأنشطة الاقتصادية جراء قيود العزل العام والتباعد الاجتماعي لنحو نصف سكان الأرض, فانخفض الطلب العالمي علي الخام لنحو أكثر من 30% بالتزامن مع تحرك السعودية وروسيا لإغراق الأسواق بإمدادات إضافية بعد انهيار الاتفاق علي خفض الإنتاج, مما تهاوت معه أسعار النفط إلي أكثر من 60%, وهو انخفاض غير مسبوق خلال السنوات العشر الأخيرة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية خفض منتجو النفط الإنتاج لدعم أسعار الخام العالمية التي تراجعت تراجعا دراماتيكيا علي نحو تلقائي دون تدخل سياسي بسبب تراجع الأسعار.
والملاحظ أنه كلما تأخر الاتفاق علي خفض الإنتاج كلما تهاوت الأسعار أكثر وأكثر لحين تعافي الأنشطة الاقتصادية العالمية.
وتسعي أوبك وحلفاؤها إلي تخفيض معدلات الإنتاج لتعزيز الأسعار, كما يسعي المنتجون الأمريكيون للنفط الصخري والنفط بعامة إلي الاستيلاء علي نصيب أكبر من السوق العالمية للنفط علي حساب أوبك.
وحتي تظهر مؤشرات فعلية لانقشاع غمة وباء كورونا ستظل أسعار النفط تحت ضغط شديد, وقد تنخفض إلي أقل من 20 دولارا للبرميل, وذلك ما حدا بأحد كبار رجال أسواق المال إلي القول بأن كوفيد أخذ سوق الخام رهينة.
ومن الجدير بالذكر أنه في دراما الترجيحات الدائمة لأسعار النفط بالسوق العالمية تتصارع مؤثرات عدة, وتنقسم هذه المؤثرات إلي مجموعتين رئيسيتين, تدعم أولاهما هبوط الأسعار بينما تدعم ثانيتهما صعود الأسعار, ووجود المؤثرات المخفضة دون المؤثرات الرافعة يهوي بأسعار خام برينت (الخام المعياري للتسعير), بينما تصعد المؤثرات الرافعة بأسعار الخام.
وتتعلق المؤثرات المخفضة كلها بالاقتصاد الكلي, ويتصدرها الحروب التجارية الأمريكية التي تؤثر علي التجارة العالمية بالسلب وترفع تكاليفها, كما تسهم في تباطؤ الاقتصاد العالمي, الذي يسهم بدوره في تخفيض معدلات نمو الطلب العالمي علي النفط.
وثاني هذه المؤثرات يتعلق بانخفاض معدلات النمو الاقتصادي, فحتي من دون الحروب التجارية كان هنالك تباطؤ في نمو الاقتصاد العالمي, والذي بدوره يسهم في تخفيض الطلب العالمي علي النفط, لكن بقاء أسعار النفط منخفضة يعني استمرار معاناة اقتصادات الدول المصدرة للنفط, وانخفاض طلبها بالتالي عليه.
ويرتبط المؤثر الثالث بالتفاوت في تسعير النفط بالدولار والعملات المحلية, التي تهبط قيمتها غالبا مقابل الدولار, فإذا كان الهبوط كبيرا يعني ذلك ارتفاع أسعار النفط ومشتقاته داخل هذه الدول, ويحفز من جهة أخري هبوط أسعاره العالمية بالدولار, بينما يساعد ارتفاع الدولار الشركات الروسية والشركات العاملة في بحر الشمال علي خفض تكاليفها, وبالتالي زيادة إنتاجيتها, مما يخفض سعر النفط.
أما رابع هذه المؤثرات فيكمن في رفع الدعم وزيادة الضرائب علي المنتجات البترولية, مما يعني أن انخفاض أسعار النفط لا يؤدي إلي زيادة الطلب عليه.
أما جملة المؤثرات الرافعة لأسعار النفط فتتعلق كلها بالاقتصاد الجزئي, ويتقدمها استمرار انخفاض مخزون الخام الأمريكي, وتباطؤ نمو إنتاج النفط الصخري, وزيادة نسبة تشغيل مصافي النفط, وزيادة صادرات الولايات المتحدة الأمريكية الناتجة عن زيادة الإنتاج, مما يعني تخفيف الضغط علي الأسواق الأمريكية, وبالتالي انخفاض المخزون مما يرفع أسعار النفط.
بيد أن جائحة كورونا عززت منذ بدأت من كساد الاقتصاد العالمي, فعززت بالتالي من قوة العوامل الخافضة لأسعار سوق النفط, ويبدو في الأفق أنها ستظل أقوي من العوامل الرافعة حتي إلي ما بعد انقشاع الغمة.
ويعاني قطاع الطاقة بالفعل الآن من آثار كورونا, فالانتشار الكاسح للفيروس ساهم علي نحو بالغ في كبح الطلب علي النفط, مما أسفر عن سقوط أسعار النفط وتداعي الإنتاج, خاصة في اشتعال حرب الأسعار بين روسيا ودول أوبك.
وكلما تحركنا قدما يتوقع قطاع الطاقة أن يواجه تيارين رئيسيين: (1) إدارة قضايا الطوارئ الصحية التي تواجهها جميع القطاعات, و (2) التوأم- بالتزامن- مع سيناريو السعر النفطي المنخفض, والطلب الأقل, والحاجة لدعم العائدات, وإدارة التزامات القروض والدين.
ومن المعروف أن الخطط النمطية لمواجهة الطوارئ تساعد علي إذكاء الفاعلية التشغيلية في أعقاب أحداث الكوارث الطبيعية, والحوادث السيبرانية, والانقطاعات الحادة للقوي الكهربية, بين أحداث أخري عديدة, لكنها لا تأخذ عموما في حسبانها الحجر الصحي, والإغلاق الممتد للمدارس والجامعات, والقيود المضافة علي السفر والتنقل التي قد تحدث في حالات الطوارئ الصحية, كما في حالة فيروس كورونا.
لقد أظهرت الجائحة عددا من التحديات الفريدة التي تحتم المواجهة العاجلة لفيروس كورونا المنتشر علي نحو كاسح, والدليل العام للمواجهة يتضمن بالضرورة قضايا: (1) إدارة الأزمة, و(2) سلاسة الإمداد, و(3) الإقرار المالي, و(4) الضرائب التجارية, و(5) قوة العمل.
ولقد حذرت إدارة الأمن السيبراني وأمن الطاقة والاستجابة للطوارئ بوزارة الطاقة الأمريكية شركاء قطاع الطاقة بضرورة البقاء يقظين للتهديدات المحتملة للأمن السيبراني, ويتلقي شركاء قطاع الطاقة التشجيع للعمل مع مركز مشاركة وتحليل المعلومات الكهربية, وكذا مركز مشاركة وتحليل معلومات الطلب علي الغاز الطبيعي, ومركز مشاركة وتحليل معلومات النفط والغاز, للبقاء علي أتم اليقظة والانتباه لأية مخاطر سيبرانية, بما في ذلك الرسائل الإلكترونية لكورونا الحاملة للخطر, والتأكيد علي أن آخر دليل للأمن السيبراني قد تم توريده لمؤسساتهم.
كذلك حثت إدارة الأمن السيبراني شركات قطاع الطاقة لتقييم الاتساع الكلي للخطر داخل سلسلة الإمداد, شاملا موردي خدمات الصناعة, وذلك لتقييم الكيفية التي قد يؤثر بها فيروس كورونا علي الخدمات, ومقاربات مقاوليها لتقديم الخدمة.
وينظر إلي صناعة داخل البحار offishore industry حاليا بوصفها منشط ومقو لوباء كورونا, وأن الأثر الأكبر للوباء يقع في البحار, أما كيف سينجو العالم من الفيروس فذلك موقوف علي تطوير لقاح يحتوي علي الفيروس, والتوقف عن إعادة العدوي بعد الموجة الأولي أو الثانية.
وفيما يتعلق بصناعة النفط والغاز معا فإن انتشار فيروس كورونا قد أثار مشكلتين جوهريتين: الهبوط في قيمة النفط, وحرب الأسعار الناتجة.
ولقد تزايدت احتمالات أن يفقد حوالي 20% من العمالة داخل البحار وظائفهم, واستقطاعات متزايدة من فرق العمل قد تستمر حتي منتصف 2021, كذلك يتفق الخبراء والمحللون علي أن الصناعة النفطية ستكون في حاجة ماسة إلي وفورات حرجة لتحتفظ بالإنتاج مربحا, وتتم مبيعات خام برنت حاليا في منتصف مدي العشرينيات دولار, وعديد من المشغلين الآن يستهدفون ذلك كعتبة أولية لتكلفة المشروعات.
وقد انهار الحد السعري للنفط Breakeven Price (أي سعر النفط المطلوب للمشروعات كي تحقق ربحا) علي نحو عنيف منذ اضطرابات الصناعة النفطية عام 2014, وتعول الشركات العاملة في المجال كثيرا حاليا علي خفض تكلفة الإنتاج لمعادلة الخفض في أسعار السوق.
ولقد أحرزت شركات عديدة استقطاعات في التكلفة سابقا باستخدام الرقمنة digitalization, ويعتقد موردو الخدمات أن الموجة الحالية لاستقطاعات التكاليف تعني تكنولوجيا أكثر داخل البحار ويبدو علي نحو ظاهر بشدة الآن أن التغيير لا مناص منه, لكن السؤال يتمحور حقيقة حول معدل التغيير وتقدمه.
والواقع أننا ونحن نستيقظ علي الموقف الراهن الذي وجدنا أنفسنا فيه ستبقي شركات الطاقة رانية عن قرب إلي خططها الراهنة حول الرقمنة, وإلي الكيفية التي يتعين عليها أن تعجل فيها ببعض جهودها في هذا المضمار.
لكن المثل القائل: مصائب قوم عند قوم فوائد يبدو صحيحا بالنسبة لشركات التكرير, حيث يدعم التراجع في سعر الخام هوامش الشركات التي تضررت جراء انخفاض الطلب مع تفشي فيروس كورونا.
كذلك مشترون كثيرون -خاصة في آسيا- صارت لديهم ميزة المفاضلة بين خيارات عديدة بعدما فتحت أمامهم فرص مراجحة النفط الأوروبي والأفريقي والأمريكي عقب تقلص الزيادة السعرية لخام برنت فوق دبي بحدة, وانخفاض أسعار الناقلات.
وعلي جانب آخر توقع متعاملون عديدون انخفاض الأسعار الفورية بدرجة أكبر من الأسعار الآجلة, مما يشجع علي تخزين النفط لديهم.
أيضا تحمل هذه التراجعات أخبارا سارة للمستهلكين, وفي مصر التي بلغت حد الاكتفاء الذاتي من النفط ببلوغ الإنتاج اليومي عتبة المليونين اثنين برميل نفط يوميا -وليست لها بالتالي صادرات أو واردات في هذا المضمار- تنعكس انهيارات أسعار سوق النفط العالمية انعكاسا إيجابيا علي المستهلك المصري الذي لن يعود يتحمل أية زيادة تالية في أسعار المحروقات , نظرا لما أدت إليه الأسعار العالمية المنخفضة للنفط من زوال الشريحة الأخيرة من الدعم التي كانت تتحملها الدولة في ظل ارتباط سوق النفط الوطنية بالسوق العالمية للنفط, ويؤثر ذلك بالضرورة في تحسين اقتصاديات الإنتاج والاستهلاك في قطاعات التصنيع والنقل والسلع والخدمات.
وينسحب الخفض في الطلب علي الطاقة كذلك علي باقي مصادرها الأحفورية وغير الأحفورية.. فالركود الاقتصادي الراهن من جراء جائحة كورونا يخفف من الطلب علي الفحم سواء لمحطات القوي الكهربية التي اضطرت إلي تخفيف أحمالها, أو للصناعة التي توقف الكثير من صروحها الإنتاجية.
كذلك تضاءلت فرص انتشار مشروعات الطاقة المتجددة مرحليا جراء القيود علي العمالة, وتخفيض ساعات العمل, والحرص علي التباعد الاجتماعي, كأساليب وقائية حتمية.. لكن هذا الخفض في استخدام مصادر الطاقة هذه رغم ظاهره الركودي يحمل في طياته مزايا عدة.. فإذا تصور أحد وقوع خسارات آنية لقطاع الطاقة جراء جائحة كورونا فإن هذه الخسارات علي المدي الطويل هي في حقيقتها مكاسب جمة لقطاع الطاقة الذي تطيل الجائحة في عمر مخزوناته الأحفورية لمستقبل الأيام.