تعد رواية قنديل أم هاشم للكاتب والمفكر الراحل يحيى حقى واحدة من العلامات الأدبية البارزة فى تاريخ مصر المعاصر، فقد صدرت هذه الرواية فى أربعينيات القرن الماضى لترسم صورة أدبية للعلاقة بالحضارة الغربية. والرواية، كما هو معرف، عن رحلة شاب (اسماعيل) من حى السيدة زينب بثقافته وتقاليده الشعبية سافر إلى أوروبا لدراسة الطب، فعاش ثقافة غير ثقافته وعالما غير عالمه. وشاء الكاتب أن يكون بطل روايته دارسا للطب، وهذا الأمر ربما له مغزى يتعلق بنظرة الكاتب للتناقض الحضارى مع الغرب، فأرد أن يراه ويرينا إياه من خلال مهنة الطب كرمز للعلم والصحة، مقابل الجهل والخرافة والمرض فى الحى الشعبى المصرى. وفى متاهات التناقض يعيش الشاب غربة واضطراب هنا وهناك، بين منطق العلم ونمط الحياة الغربى، وواقع الخرافة ونمط الحياة فى موطنه الشعبى.
إن التناقض الحضارى مع الغرب كان ومازال أحد المحركات الأساسية لسياسات الهوية فى ثقافتنا، أى أن الغرب كان هو النموذج الذى نقيس عليه الاختلافات بين الذات والآخر، فالغرب هو الآخر الذى نراه ونتصوره بكثير من الارتباك والتناقض، فهو الآخر الذى ننتقده وهو النموذج الذى نتطلع لأن نكونه. والنظرة إلى الغرب تتم من منظورات مختلفة: دينية وأخلاقية وعلمية وسياسية. وعادة عندما تتشابك النظرة مع هموم الهوية والدفاع عن الذات، فإن المنظور الدينى والأخلاقى يتصدر المشهد. أما النظر إلى الغرب كنموذج، فغالبا ما يكون من المنظور العلمى والاجتماعى وأحيانا السياسى.
ولم تكن نظرة يحى حقى للعلاقة مع الغرب فى “قنديل أم هاشم”فى الأربعينيات أسيرة المنظور الدينى، ولكنها نظرة مركبة بالمعنى الثقافى والعلمى والاجتماعى وربما النفسى. ففى هذه الرواية نجد أنفسنا فى معترك إشكالية الوعى بالاختلاف العلمى القيمى والثقافى. إن القيم الغربية التى تجسدها شخصية “مارى” تلك الفتاة التى التقى بها اسماعيل فى غربته، تكشف الفجوة الثقافية والقيمية بين العالمين، فمارى تمر فى الرواية كلحظة غربية كاشفةتجعل بطل الرواية يرى ذاته من منظور مختلف، فيقول: “.. كان من قبل يبحث دائما خارج نفسه عن شئ يتمسك به ويستند إليه: دينه وعبادته، وتربيته وأصولها، هى منه مشجب يعلق عليه معطفه الثمين. أما هى، فكانت تقول له: “إن من يلجأ إلى المشجب، يظل طول عمره أسيرا بجانبه يحرس معطفه. يجب أن يكون مشجبك نفسك”. إن أخشى ما تخشاه هى: القيود. ,اخشى ما يخشاه هو: الحرية”.
عاد اسماعيل إلى وطنه، إلى حى السيدة زينب، ليراه من المنظور الغربى، فرآه بشعا: قذارة وذباب، وفقر وخراب، فانقبضت نفسه، وركبه الوجوم والأسى، وزاد لهيب الثورة فى قرارة نفسه، وزاد التحفز”. وتصل ذروة الثورة والتحفز عندما يحطم القنديل “المقدس” قى باحة مسجد السيدة زينب، قتديل أم هاشم، وهو يصرخ: “أنا .. أنا .. أنا”. إنه اللفظ الذى اختاره يحى حقى ليجسد فى كلمة معبرة عن “الأنين وعن الرغبة فى البوح”.
إن حالة اسماعيل أشبه بحالة شخص بلا هوية يقف على الحدود الفاصلة بين ثقافتين راجيا مستعطفا وباحثا عن خلاص. ثم يكتشف أن مشكلته ذاتية، بمعنى أنه أراد للعالمين أن يكونا متطابقين، لقد أراد أن يكون المخلص، فانتهى به الأمر ليكون باحثا عن الخلاص. ولم يكن حل المشكلة فى رفض أى من الثقافتين، ولكن فى التوقف عن المقارنة بينهما أن ينظر لكل مجتمع بمنظاره حتى يراه وفق شروطه ومعاييره.
وكان هذا هو السبيل للتصالح مع حى السيدة زينب، عندما تساءل: “ولم المقارنة؟ إن المحب لا يقيس ولا يقارن. وإذا دخلت المقارنة من الباب ، ولى الحب من النافذة”. إن يحيى حقى بدا وكأنه يريد أن يوجه رسالة وهى أن لكل مجتمع خصوصيته التى ينبغى احترامها، أن نعيها بدون أن نتعالى عليها أو نتحفز ضدها. أى أن نتعامل مع الواقع الثقافى بشروطه لا بمعايير واقع ثقافى آخر.
وعلى ما يبدو أن استخدام رمزية العلم والطب فى رواية “قنديل أم هاشم” فى الأربعينيات لوصف التناقض الحضارى مع الغرب، يمكن أن تطرح نفسها مجددا ونحن نعيش لأول مرة ظاهرة الوباء الكونى. وها نحن نكتشف أن العلم والطب ليست مجرد رموز لوصف التناقضات الحضارية، ولكنها ضرورات حياة. فالكل مهموم بالوباء وتداعياته، والكل يحلم بالخلاص، والكل يتطلع للعلم. إن المخيف الآن ليس أخلاقيات الآخر ولا اختلافه الدينى أو العقائدى، إن المخيف هو السلوكيات والممارسات التى تهدد بانتشار الوباء.
وهكذا فإن الهموم تبتعد عن ثنائية نحن والآخر الغربى التى سيطرت على تفكيرنا لعقود طويلة، وتستحضرثنايئات مثل: نحن والعلم، نحن والصحة، نحن والسلوكيات. إن حضور “نحن” بدون “الآخر” تغير مفهوم الهوية وقد تعطله، ولو بشكل مؤقت.