علاقات جيوسياسية جديدة فى ظل أزمة اقتصادية لا يُدرك أحد نهايتها
تخوفات من انتقال ميزان القوى الاقتصادية العالمية من الغرب للشرق
بات فيروس كورونا من الصعب تخيل عواقبه مستقبلاً ، فمثلما غيّر سقوط جدار برلين وانهيار شركة ليمان براذرز العالم، كذلك سيفعل وباء كورونا الذي يخطف أرواح الآلاف ويهدّد حياة مليارات البشر ويربك الأسواق ويشكّك الناس في الغرب حيال كفاءة حكوماته في التعاطي مع الأزمات .. لكن من المؤكد أن هناك تغيرات على الصعيدين السياسي والاقتصادي ستشهدها أوروبا وأمريكا والعالم بأثره ، خاصة فى ظل نشوب خلافات حول الوضع الاقتصادي والمالي بين دول الإتحاد الأوربي ، مع الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها الوباء ، وهذا ما يوكده أغلب الباحثين والدارسين والمراقبين وأساتذة الاقتصاد و العلاقات الدولية حول العالم ..
وهناك محادثات بين قادة الإتحاد الأوروبي حول حزمة المساعدات الممكنة للدول الأكثر تضررا من الفيروس في مواجهة الدول الأقوى اقتصاديا. وتطالب إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، وهي الدول الأكثر تضررا من الفيروس في أوروبا، ألمانيا والنمسا وهولندا بالموافقة على إصدار “سندات كورونا”، كآلية ديون متبادلة مثيرة للجدل لمساعدة دول التكتل الأكثر تأثّراً بكوفيد-19 على تمويل جهودها لدرء التداعيات الاقتصادية المدمرة للوباء.
الغرب .. وسلاسل التوريد
من ناحية أخرى توقع روبين نيبلت المدير التنفيذي للمعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن فى حديثه مع مجلة ” فورين بوليسي ” الأميركية أن يكون فيروس كورونا قد يصبح القشة التي تقصم ظهر العولمة الاقتصادية ، فقد أثارت القوة الاقتصادية والعسكرية المتنامية للصين، عزماً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة على منع بكين من الحصول على التكنولوجيا الفائقة التطور الأميركية المصدر وحقوق الملكية الفكرية، بل ومحاولة إجبار الدول الحليفة على أن تحذو حذوها. واستدعت الضغوط السياسية والشعبية المتزايدة من أجل خفض الانبعاثات الكربونية، تساؤلات حول تأثير اعتماد الغرب على سلاسل التوريد البعيدة الموجودة في الصين وشرق آسيا، خصوصاً بعدما أرغم فيروس كورونا الحكومات والشركات والمجتمعات على تعزيز قدرتها في مواجهة فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية.
وأضاف ” نيبلت ” لهذا من المحتمل إلى حد كبير أن يعود العالم إلى فكرة العولمة المفيدة للطرفين التي تأسست في أوائل القرن الحالي، لأنه من دون وجود حافز لحماية المكاسب المشتركة من سلبيات الاندماج الاقتصادي العالمي، ستتدهور بسرعة بنية الحوكمة الاقتصادية العالمية التي تأسست في القرن العشرين. وحينئذ، سيتطلب الأمر من القادة السياسيين جهداً هائلاً للحفاظ على التعاون الدولي وعدم الانزلاق من جديد إلى المنافسات الجيوسياسية.
توزيع الثروات الاقتصادية
قال فريق الباحثين في مجلة ” القارة الكبرى” التي تصدر باللغة الفرنسية لـ ” فرانس 24 ” أن فيروس كورونا يشكل فرصة سانحة لإعادة بناء نظام دولي جديد يرتكز على أسس المساواة والعدالة في توزيع الثروات الاقتصادية .. ويرى جيل جرساني الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس ، أن فيروس “كوفيد 19” يهدد أمن العالم بأسره ، ويجب بالتالي التفكير بمواجهته بشكل جماعي وعلى نطاق عالمي ،وقال : في الحقيقة فإن الأزمة الصحية التي نمر بها تشكل خطرًا كبيرًا على سيرورة العلاقات الدولية ، وهي قادرة على زعزعة هذه العلاقات في حال لم يتم وضع إطار عام يراعي المصالح السياسية والاقتصادية المتناقضة لجميع الدول والشعوب ، منوهاً أنه على الفاعلين والمؤثرين في النظام الدولي السابق أن يشددوا النظر في الدور الذي لعبوه قبل أزمة فيروس كورنا، وأن يساهموا الآن في فتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية ،مشيراً إلىأن التفكير القومي السائد لدى بعض السياسيين الأوروبيين لا يجب أن يخفي الأخطار المحدقة بنا ، وللحيلولة دون وقوع كارثة صحية وصدمة اقتصادية قد تهز الدول الأوروبية، علينا أن نفكر في سيناريوهات جديدة ترتكز أساسا على التعاون بين الدول والحكومات مثل التعاون الصحي الذي بدأ يظهر بين فرنسا وألمانيا وفرنسا ولوكسمبورغ من أجل تخفيف العبء على المستشفيات الفرنسية.
المناهضين للعولمة
فمن جانبه، ذكر ريتشارد هاس، رئيس المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية، أن هذا الوباء سيدفع بلدانا عديدة إلى إيلاء اهتمام أكبر بالشؤون الداخلية منه بالشؤون الخارجية لبضع سنوات على الأقل ، كما يعتقد جون إيكنبيري الأستاذ بجامعة برنستون أن تفشي الفيروس سيضخ الزخم لدى أطراف مختلفة لمناقشة الإستراتيجية الغربية الكبرى، حتى أنه سيجعل المناهضين للعولمة يجدوا أدلة جديدة تثبت وجهات نظرهم على الأمد القصير.
وفي المقابل، أكد روبرت جيرفيس الأستاذ في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، أنه عندما نلخص الوضع بعد إنتهاء الوباء، سنجد أن المشكلة الحقيقية ستتمثل في الإخفاق في العمل بشكل فوري على تشكيل تعاون دولي فعال بين الدول ، كما يرى إيجور شاتروف، رئيس لجنة خبراء صندوق التنمية الإستراتيجية الروسي، أنه مع اتخاذ بعض الدول “لموقف مستقل وأحادي” بشأن قضية العولمة، فإن الافتقار إلى المساعدة المتبادلة والتعاون بين الدول في مواجهة الأزمات لن يصب في مصلحة أحد.
العلامة التجارية الغربية
وقال ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفرد لـ ” يورونيوز ” إن الوباء سيدعم صعود الحركات القومية ويدعم سلطة الحكومات وقبضتها على مقاليد الأمور ، وستتبنى الحكومات بمختلف اتجاهاتها إجراءات طارئة في محاولة لاحتواء انتشار الفيروس ولن يتخلوا عن تلك السلطات بسهولة فور انتهاء الأزمة ، كما سيؤدي الفيروس إلى سرعة انتقال ميزان القوى العالمية من الغرب إلى الشرق وإلى دول استطاعت تدارك الأزمة بشكل سريع نسبياً ككوريا الجنوبية وسنغافورة والصين في وقت تباطأت فيه الحكومات الغربية الأوروبية ودخلت في طرق عشوائية لاحتواء الأزمة وهو ما سيؤدي في النهاية إلى زوال عصر سطوة العلامة التجارية الغربية.
ويى “والت” أزمة فيروس كورونا باتت تشكل فرصة سانحة لإعادة النظر في العلاقات الدولية وجعلها أكثر توازنا وخدمة لكافة الشعوب ، وإذا استخلصنا الدروس من الوضع الحالي، أعتقد أن وباء كورونا سيساهم في بناء علاقات جيوسياسية جديدة، خاصة وأن العالم مقبل على أزمة اقتصادية عميقة لا يُدرك أحد نهايتها ، لكن للأسف، سيكون هناك رابحون وخاسرون من هذه الأزمة ، والرابحون بإمكانهم أن يؤسسوا نظامًا دولياً جديدًا يخدم مصالح الإنسانية جمعاء.
الإنطواء داخلياً
وقالت لوري غاريت، كاتبة علمية حائزة على جائزة بوليتزر: سيؤدي الفيروس إلى خلق مرحلة جديدة من الرأسمالية العالمية ستخشى فيها الشركات والحكومات من نظم التجارة الحالية العابرة للحدود وخاصة بعدما أظهر الفيروس أن هذا الانفتاح الكبير قد يجلب معه أمراضاً مميتة في غضون أيام وساعات ، منوهة أن تلك الشركات والحكومات قد تسعى بعد الخسائر التي تتكبدها حالياً ومستقبلاً بسبب الفيروس، إلى الإنطواء داخلياً وتتبع نهجا يقضي بالاعتماد على الإنتاج والتوزيع والربح الداخلي كوسيلة أكثر أماناً من الانفتاح العالمي الهش.
الإتحاد الأوروبي وأكبر اختبار له
هذا أعتبرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، الإثنين أن أزمة فيروس كورونا المستجد تشكل أكبر اختبار للاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه، مؤكدة أن ألمانيا “مستعدة للمساهمة” في دفع التكتل قدما ، وقالت المستشارة الألمانية للصحفيين، قبيل مؤتمر لوزراء مالية منطقة اليورو يهدف إلى إعداد خطة إنقاذ لاقتصاد التكتل: ” برأيي… يواجه الإتحاد الأوروبي أكبر اختبار له منذ تأسيسه”. وأضافت ميركل “الكل متأثر على حد سواء، وبالتالي من مصلحة الجميع وألمانيا أن تخرج أوروبا قوية من هذا الإختبار”.
من جانبه وافق حكام البنك المركزي الأوروبي على السماح للمصارف بالاقتراض منه بضمان “سندات عالية المخاطر” سواء أكانت صادرة عن حكومات أو شركات في منطقة اليورو، لمواجهة تداعيات جائحة فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي ، وللاستمرار في توفير موارد مالية لاقتصاد منطقة اليورو .