اسمها عواطف, وحكايتها شحنة من العواطف, قصة لا تتكرر كثيرا, لكن علي ندرتها تثبت أن الآلام صنيعة البشر, لذلك يحملون بداخلهم القدرة علي تجاوزها, عاشت جسما عاجزا, قلبا حيا, عاشت جسما ساكتا, ورحا تحاصر أي صمت, تتمرد علي مغارة الأحلام, وتغادرها للواقع الأروع, وكحبة القمح تحت الشمس, تزداد تألقا, روت عواطف خبرتها مستمتعة بكل تفاصيلها قائلة:
أمضيت عمري, بين أحلام اليقظة وهلوسات الغفوات, ثلاثوين عاما بين ضلوعي بركانا حممه لا تهدأ, أودعت قلبي في المنفي الاختياري, بإرادتي حييت إنسانا بلا نوع, فمن ذاك الذي تبهره فتاة عاهتها تحتل نصف جسدها؟ ونسيت أن بداخلي أنثي, مازال صراخها يزلزل أعماقي, حتي تفتحت ورودي, ولم يقو الشلل علي أقتلاعها من بساتين الأمل, التي انفجرت في كياني, بعدما التقيت معه, ونسيت أنني مختومة بعاهة منذ نعومة أظافري, فقدت ذاكرة جسدي التي وضعت بصماتها علي الكفين والركبتين, من فرط زحفي نحو أهدافي, حتي لا يعوقني عجزي عن الحركة.
كان صديقا في فريق عمل تطوعي التحقت به, لأنخرط في الحياة, للمرة الأولي أشعر بأنوثتي, بأنني أستوعب الحب وهناك رجل يستوعبني, وتطورت الأمور بسرعة شديدة, طموح لم يخل من الجموح, لم يصدق والداي, ولا إخواتي الستة الذين يصغرونني, ويحبونني كثيرا, لم يصدق أحدهم أنني أنا الفتاة العاجزة صاحبة الشلل الكامل سوف أرتبط برجل صحيح, وجاء لخطبتي, واتفق مع الأسرة أنه سوف يصطحب أسرته, ويتمم كل شيء.
لكنه لم يف بالوعد, عام كامل من المراوغة, ولم تأت الأسرة المزعومة, واصطدمت بالواقع المرعب, أنا مشلولة, الحب محرم علي ذوي العاهات, الحب الممنوع في زمن الخيانات, الحب الخادع باسم الشعارات ولملم هداياه, ورحل, بعد أن صارحنا أنه لن يستطيع مواجهة أسرته بامرأة مشلولة, وأنني ـ كما نشاهد في نهايات القصص الواقعية ـ أستحق كل خير لكن مع شخص أنسب منه, لأفهم بالإشارة أن الأنسب لابد أن يكون معيبا, حتي تستقيم الأمور, ولا يختل ميزان العدل البشري.
لم يلق بالا لمشاعري, ولا معاناتي, وكانت صدمة تجريحه وانخراطي في الحياة أعنف من المنفي الاختياري, أعنف من ضعف والدي الذي عاش يعمل مجرد مبيض محارة, أقعدته الأيام عن العمل بفعل المرض, فاضطرت والدتي للعمل في مصنع ملابس, أعنف من رحلة الموت التي لا أذكرها لكن روتها لي والدتي مئات المرات حتي تؤكد لي أنها فعلت كل ما كان بوسعها لإنقاذي حينما كنت رضيعة, وتم حقني بعقار خطأ لخفض الحرارة, وهو ما تسبب في شللي الدائم.
كانت صدمتي في حبي الأول أعنف من طواف أمي علي المستشفيات, تسلمني من جراحة لجراحة ربما تجد حلا, ولم تجد حتي ضمرت ساقاي, ولم يفلح معهما العلاج الطبيعي, ولم تعدهما إلي الحركة الجراحات المتتالية.
وضاع حبي الأول, وحينما ضاع حبي الأول تذكرت ضياع حلمي الأول في التعليم, حينما كان ذهابي للمدرسة شبه مستحيل, ولا يوجد من يحملني يوميا إلي أي مكان, لضخامة جسمي, وثقل وزني, فكان الحل في دروس محو الأمية, التي تلقيتها وتابعت خلالها تعليمي حتي وصلت لمرحلة الإعدادية, وحينها رفض أهلي دخول الثانوي العام لضيق ذات اليد, فالتحقت بالدبلوم وحصلت عليه ودخلت المنفي كما ذكرت. حينها كان عمر 25 عاما ظللت في منفاي حتي أتممت عامي التاسع والعشرين, وحينها ارتبطت بمن قام بخداعي.
لم أفقد قدرتي علي الحلم, لم أستسلم لفكرة أنه الوحيد الذي اخترق منفاي, وطرحني خارجه, فأنا من طرحت نفسي خارج القوقعة التي عشت فيها سنين طويلة من الوحدة, وتفوقت علي ذاتي في الخروج من الأزمة, وتجاوزت الصدمة, وكل صدمة عشتها أو عايشتها ذكري مؤلمة علي لسان أمي, وواصلت انخراطي بين الأصدقاء وفي العمل التطوعي الذي كنت أذهب إليه بمساعدة الاصدقاء وبعد خمس سنوات, ظهر الفارس الذي يزور كل الفتيات في أحلامهن. فارس في زمن أبطاله من ورق.
والتقيت بمن امتلك تحريك المياه الراكدة في بحيرة حياتي من جديد, آمنت بنفسي, بجنسي, بقلبي, بقدرتي علي الحب والعطاء التي لا ترتبط بساقين أو قدمين, وتسلل إيماني لوجدانه, فصارحني بمشاعره, وكنت حذرة هذه المرة فأشترطت عليه منذ الوهلة الأولي إعلام أسرته بكل ظروفي, الصحية والأسرية, ومؤهلي العلمي, فأنا في غني عن صدمات إضافية, وتشككت في رد فعله, فالتجربة الأولي مازالت تلقي بظلالها علي تقديري للأمور, لكن ظني خاب, جاء ومعه كل أسرته, نعم كانوا علي مضض, لكنهم جاءوا وهو ما يضع مستقبلي في امان مع هذا الرجل, وتمت الخطبة.
أحببته, بكل كياني, وتمنيت لو أنهم قايضوني بساقين مقابل الحب, حتي يعلم أنني من قبل تكويني كنت أهواه, يكفي أنه لا يدعني أنحني علي كفي وركبتي, بل يحملني علي كتفيه ويجوب بي كل مكان, يحملني إلي الكنيسة, وإلي التنزه, وإلي أي مكان أريد الذهاب إليه, يحملني ويصعد بي سلم المنزل ستة طوابق كاملة, ما كل هذا الحب يا ربي؟ هل يمكن لأنثي ناقصة أن تسعد هذا الرجل؟.
وسألت نفسي: هل يمكنني إسعاده؟ وتمزقت اغترابا ومعية, فبرغم سعادتي في وجودي معه, إلا أنني أخشي المجهول القادم من جوف العاهة بعد أن نجتمع بين أربعة جدران وسقف, لكن بدد مخاوفي, وتمم كل الاجراءات, واصطحبتني والدتي لطبيب متخصص, لتهدأ حيرتي, وأعلم هل أنا قادرة علي الإنجاب مثل معظم النساء أم لا؟ وكانت المفاجأة إنني قادرة وسليمة, ولا ينقصني شيء وأجريت كل فحوصتي, وحجزنا الإكليل بعد أسابيع قليلة, ولا أريد سوي أن أتمم زيجتي بخير, بمساعدتكم في ظل الظروف المادية التي تلازم أسرتي.