مجد الصعود
كان صعود السيد المسيح, تدريبا عمليا لتلاميذه علي الخدمة.
مرت سنوات والسيد معهم, هو الذي يقوم بكل شيء, وهم ينظرون ويتأملون ويتعلمون, ولذلك قال لهم في قصة لقائه بالسامرية أنا أرسلتكم لتحصدوا مالم تتعبوا فيه, آخرون تعبوا, وأنتم دخلتهم علي تعبهم (يو4: 38).
بقي أن يتركهم لكي يتدربوا عمليا علي الخدمة يدخلوا في أعماقها ويتحملوا تعبها وتجاربها, وينالوا أكاليل هذا التعب في صبر كثير, في شدائد في ضرورات في ضيقات, في ضربات سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام مجد وهوان, بصيت حسن وصيت رديء (2كو 6: 4 ـ 8).
وفي كل هذا ينالون خبرة روحية ويحبون حياة الإيمان, ويأخذون بركة التعب والجهاد.
لقد عمل السيد المسيح معهم كما يعمل النسر مع فراخه حين يعلمهم الطيران يلقيهم لكي يطيروا بأنفسهم ويتعلموا الطيران فإن تعبوا, سرعان ما يتلقاهم علي جناحيه, فهو لا يتركهم تماما إنما يتركهم يعملون, ويلاحظهم ويعينهم وبالمثل يفعل الأب الذي يعلم ابنه العوم. يحمله علي يديه ثم يتركه في الماء. فإن تعب يرجع ويحمله إلي أن يتقن العمل بلا خطر.
كان صعود السيد المسيح في مجد أخذته سحابة عن أعينهم, وصعد إلي فوق إلي السماء, حتي اختفي عن أبصارهم, ووقف ملاكان يحدثان التلاميذ عن صعوده, وعن مجيئه هكذا علي السحاب, كما صعد أمامهم.
وإحساسنا بمجد الله مفيد لنا روحيا
ولقد رأي التلاميذ من قبل شيئا عن مجد الرب. وكان ذلك أولا في التجلي مر 9: 2 ـ 10..
حيث أضاء منظر الرب بنور مبهر, وإذا بالآب القدوس يتكلم من سحابة قائلا: هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا (مر 9: 7).
وفيما بعد ظهر مجد الرب في نورحينما تكلم في طريق دمشق مع شاول الطرسوسي وهداه ودعاه أع 9.
وأمام هذا المجد آمن شاول وتحول من مضطهد للكنيسة إلي رسول عظيم, وبالإضافة إلي مجد الرب ونوره في التجلي وفي ظهوره لشاول الطرسوسي, ظهر مجده في رؤيا يوحنا.
فيشرح كيف رأي الرب ووجهه كالشمس وهي تضيء في وقوتها وعيناه كلهيب نار (رؤ 1:16, 14) ولم يحتمل يوحنا قوة المنظر لذلك قال فلما رأيته سقطت عند قدميه كميت (رؤ 1:17) وظهر مجد الرب أيضا في معجزاته.
وفي العهد القديم أمثلة كثيرة لمجد الرب, منها ما حدث أثناء إعطائه الوصايا العشر لموسي حيث ارتعد كل الشعب الذي في المحلة.. وارتجف كل الجيل جدا (خر 19: 16, 18) وقال الشعب لموسي تكلم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت (خر 20: 19)..
ما أجمل أن نتأمل مجد الله لكي ننتفع ونتخشع..
لا يكفي فقط أن نتحدث عن الله المتواضع المحب الغفور.. وإنما يجب أيضا أن نأخذ فكرة عن الله القوي العالي, الجالس فوق الشاوربيم, الماشي علي أجنحة الرياح.. الله الذي هو نور لا يدني منه الذي تجثو له كل ركبة, ما في السماء وما علي الأرض وما تحت الأرض (في 2: 10).. الله غير المحدود, غير المدرك, رب الأرباب وملك الملوك رؤ 19: 16 الذي السموات ليست ظاهرة قدامه, وإلي ملائكته ينسب حماقة الساكن في الأعالي, الذي يغطي الملائكة وجوههم من هيبة مجده, والذي أمامه الأربعة والعشرون كاهنا طرحوا تيجانهم وسجدوا قائلين له مستحق أنت أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة (رؤ 4: 10 ـ 11).
إننا لسنا نؤمن فقط بالمسيح المولود في مذود بقر, إنما نؤمن أيضا بالمسيح الصاعد إلي السماء في مجد ونحن ننتفع روحيا بمجده..
إيماننا بمجد الله, يعطينا روح المهابة والاحترام والمخافة وكل هذا يقودنا إلي الحرص والتدقيق, وإلي حياة التوبة. كما أننا بتأملنا لعظمة الله تدخل في قلوبنا مشاعر الاتضاع والانسحاق متذكرين أننا لا شيء قدامه, وبهذا نصل إلي تمجيد الله وتسبيحه.
مدركين أن كل عظمة عالمية وقفت ضد الله, لم تسطع أن نثبت وكل آلة صورت ضده لا تنجح, لأنه هو الإله القوي فوق كل قوة, بل هو غير المحدود في قوته وهو القادر علي كل شيء وكل هذه الصفات تملأ قلب المؤمن بالاطمئنان, لأنه في حمي إله بهذه العظمة والقوة.
ومن الناحية الأخري إذا نسينا عظمة الله قد نتدال ونستهتر..
وتزول مخافة الله من قلوبنا, فنخطئ وقد نستمر في أخطائنا وخطايانا باعتماد خاطئ علي محبة الله ومغفرته وقد نصل إلي اللامبالاة وإلي البقاء في السقوط والخطية.. فنذكر باستمرار عظمة الله المملوءة اتضاعا وحبا وحكمة. ولنذكر في صعود المسيح أيضا:
أن السيد المسيح ارتفع فوق طبيعتنا وصعد, أو هو قد رفع طبيعتنا بصعوده, ومنحنا عربون الصعود.
ولنقل له: أنت يا رب قد صعدت إلي السماء فهي عرشك. وما هذه الأرض سوي موطئ قدميك.. بل أنه تواضع منك يارب أن تجعل الأرض موطئا لقدميك.. ونحن بعض من تراب هذه الأرض التي هي موطئ قدميك. فمن نحن يارب حتي نرفع وجوهنا أمامك؟.. وهكذا بصعود الرب إلي السماء نكتسب اتضاع القلب, ونعرف من نحن, ومقدارنا ما هو؟! لا شيء قدامه..!
صعد الرب علي سحابة, وسيأتي في مجيئه الثاني علي سحاب السماء متي 24: 30 متي 26: 64 مر 13: 26 مر 14: 62 وقيل في سفر الرؤيا أيضا هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين (رؤ 1: 7) فيما مغزي السحاب هذا؟..
السحابة في صعوده
السحاب كان في العهد القديم يرمز إلي حلول الله.. وإلي مجده. نري هذا في خيمة الاجتماع, وفي تابوت العهد, وفي الهيكل, وفي مناسبات عديدة وقد قيل في المزمور السحاب والضباب حوله (مز 97: 2) وقيل بعامود السحاب كان يكلمهم (مز 99: 7) وفي قصة خيمة الاجتماع, نقرأ ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع, وملأ بهاء الرب المسكن (خر 40: 34) وأيضا وعند ارتفاع السحابة عن المسكن, كان بنو إسرائيل يرتحلون (خر 40: 36) عدد 9: 15 ـ 17 وفي قصة اختبار الشيوخ السبعين لمعاونة موسي النبي, وظهور الرب لموسي, نقرأ ونزل الرب في سحابة وتكلم معه (عدد 11: 25).
وحل مجد الرب علي جبل سيناء وغطاه السحاب ستة أيام وفي اليوم السابع دعي موسي من وسط السحاب (خر 34: 16).
وأيضا ودخل موسي في وسط السحاب أي في الحضرة الإلهية, وكان موسي في الجبل أربعين نهارا وأربعين ليلة (خر 24: 18) وفي قصة تدشين الهيكل نقرأ وكان لما خرج الكهنة من القدس, أن السحاب ملأ بيت الرب. ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب, لأن مجد الرب ملأ بيت الرب (1 مل 8: 10, 11).
واضح هنا أن السحاب كان رمزا لمجد الله وحلوله. وسير الشعب في البرية تحت السحاب, كان رمزا لسيرهم في رعاية الله..
أو ربما تشير إليه عبارة العروس في سفر النشيد تحت ظلك اشتهيت أن أجلس (نش 2: 3).
الجلوس عن يمين الآب
السيد المسيح صعد إلي السماء وجلس عن يمين الآب. هذا ما تنبأ عنه داود في المزمور قائلا قال الرب لربي اجلس عن يميني, حتي أضع أعداءك موطئا لقدميك (مز 110: 1).
وجلوس المسيح عن يمين الآب واضح أيضا في الإنجيل, وسفر الأعمال, ورسالة القديس بولس إلي العبرانيين:
فيقول مرقس الإنجيلي ثم أن الرب بعدما كلمهم, ارتفع إلي السماء, وجلس عن يمين الله (مر 16: 19) وفي الإنجيل لمعلمنا متي البشير يقول السيد المسيح لرؤساء الكهنة أثناء محاكمته من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة وآتيا علي سحاب السماء (متي 26: 64)..
وهذا ما رآه القديس إسطفانوس وقت استشهاده.
معني الجلوس عن اليمين
أولا الله ليس له يمين ولا شمال, لأنه غير محدود ومالئ الكل, فكلمة اليمين ترمز إلي القوة والعظمة, كما ترمز إلي البر.
وجلوس المسيح عن يمين الله, يعني إنهاء عبارة أخلي ذاته, واستقراره في قوة الله وفي عظمته.
لذلك استخدمت عبارة يمين القوة في متي 26: 64. واستخدمت عبارة يمين العظمة في عب 1: 3, عب 8: 1 ويقول المزمور يمين الرب صنعت قوة, يمين الرب رفعتني (مز 117)..
كذلك من جهة الجلوس عن اليمين ليس هناك مكان ليس فيه الله ليجلس فيه أحد. كما أن علاقة الابن بالآب ليست علاقة مجاورة, إنما يقول أنا في الآب, والآب في (يو 14: 10), من رآني فقد رأي الآب وأنا والآب واحد (يو10:30) (يو 14: 9)..