على ما يبدو أن فكرة التباعد الاجتماعى باتت تؤسس ذاتها وتكتسب شرعية قد تزداد قوة إذا ما صدق القول بأن مع وباء كوفيد-19 سيظل موجودا وعلينا أن نتعايش معه. وهكذا فقد يكون علينا الاستعداد للعيش فى عالم مختلف، عالم بلا حميمية. وليس هذا وفقط، فقد يكون علينا أن نواصل التنازل الطوعى عن خصوصيتنا لأنه هذا التنازل سيكون أحد شروط التعايش، فالأمر يتطلب منا أن نسلم أجسادنا كقرابين فى معابد العالم الافتراضى. فقد تداولت بعض المواقع الإخبارية مؤخرا ما يفيد بأن شركات التكنولوجيا ونظم المعلومات وكذلك منظمة الصحة العالمية وبعض السلطات تعمل على اختبار تطبيقات إلكترونية صحية لتعقب مرضى كوفيد-19 (كورونا)، وهو ما يعنى اختراق الأجساد من أجل مراقبتها من الداخل والتحكم فيها والسيطرة عليها من الخارج.
ونشير فى هذا الصدد إلى ما ورد فى موقع بى بى سى فى 11 أبريل الماضى بأن هناك اتفاق شركتى “آبل وجوجل على تطوير تقنية مشتركة لتنبيه الأشخاص إذا اتصلوا بآخرين تبين إصابتهم بفيروس كورونا”. ووردت مؤخرا أخبار تفيد بأن منظمة الصحة العالمية تنوى طرح تطبيق ذكي .. يتيح لسكان البلدان قليلة الموارد معرفة ما إذا كانوا قد أصيبوا بفيروس كورونا المستجد، وتدرس أيضا إضافة خاصية تعتمد على تقنية الـ «بلوتوث» لاقتفاء أثر المخالطين، وقد قال برناندو ماريانو كبير مسؤولي نظم المعلومات بالمنظمة، إن التطبيق سيسأل الناس عن الأعراض ويقدم إرشادات بشأن ما إذا كانوا قد أصيبوا بمرض “كوفيد 19″ الناجم عن الإصابة بالفيروس”. وعموما فإن منظمة الصحة العالمية، منذ سنوات معدودة، تدفع باتجاه ما تسميه “الصحة الإلكترونية”، ففى دليل “الاستراتيجية الوطنية للصحة الإلكترونية”، الذى أصدرته المنظمة عام 2013 بالتعاون مع الاتحاد الدولي للاتصالات تعرف الصحة الإلكترونية بأنها: “استخدام تكنولوجيا المعلوماتوالاتصالات من أجل الصحة. والصحة الإلكترونية، في معناهاالأوسع، هي تحسين تدفق المعلومات عبر الطرق الإلكترونية لدعمتقديم الخدمات الصحية وإدارة النظم الصحية. وتشير إلى أنالصحة الإلكترونية اليوم آخذة في تغيير جوانب وسمات تقديمالرعاية الصحية، فالأعمال الصحية، على كافة المستويات وفي كلالبلدان، تعتمد اعتماداً متزايداً على المعلومات والاتصالات، وعلىالتقنيات التي تجعلها طيعة، سواء أكان تلك الأعمال تستهدفتقديم الرعاية أو نشر الموظفين أو إجراء البحوث”. ويشير الدليل إلى أن احترام خصوصية وأمان المعلومات الصحية الشخصيةمطلب أساسى ويقترح الحل بأن تكون هناك تشريعات تحمى الخصوصية والمعلومات الصحية الشخصية.
وفى الواقع، أن أى حديث عن استخدامات وتطبيقات تكنولوجياتالمعلومات، غالبا ما يرتبط بمحاولات الطمأنة بأن الخصوصيةوالبيانات الشخصية لن تمس وسوف يتم حمايتها بالتشريعات. ولكن فى الحقيقة أن هذه الحماية المزعومة ليست إلا كذبة كبرى نعيشها وندفع ثمنها جميعنا، فالتشريعات كانت دائما لصالح أطراف أخرى غير أصحاب الخصوصية، وإن وجدت فهى غير فعالة. ويبرهن على ذلك العديد من الدراسات والتقارير وحتى الأعمال الفنية. فنحن نقدم، طوعا وقسرا، كماً لا نهائيا من البيانات والمعلومات عن حياتنا الشخصية، ونودعها فى خزائن الشركات صاحبة اليد العليا فى امبراطورية المعلوماتية لتكون رأسمالها ورصيدها الذى تستثمره وتوظفه لأغراض سياسية واقتصادية وتسويقية. يقول أحد المسئولين فى شركة جوجل العملاقة: “إننا نعلم أين أنت الآن، إننا نعلم أين كنت. وإلى حد ما، نحن نعلم بماذا تفكر حاليا..”، وردت هذه العبارة فى كتاب “ملف غوغل” الصادر عن عالم المعرفة، والذى يرد فيه كذلك أنه عند الدخول على محرك البحث، يزيح بنو البشر الستار عما يراود عقولهم ويجول فى أعماقهم. فالمرء يستخدم محرك البحث، أيضا، حينما يريد التعرف على مسائل تتعلق بمرض معين أو للاستفسار عن مسائل الطلاق، وعن موضوعات جنسية أو مشاكل مالية ومهنية مختلفة. إن كل ذلك يجرى تخزينه داخل جوجل. وكما قال أحد المتابعين لعالم التكنولوجيا: “لم يعد لديك خصوصية… عليكتقبّل ذلك”.
وباختصار، فإننا بمنتهى النشاط والدأب والحماس نتعرى طواعية فى معابد تكنولوجيا المعلومات، نبحث فى محركاتها فنقول لها ما نريد وما نكره، ونغذى تطبيقاتها الشرهة للمعلومات والبيانات من أجل تطوير وحفظ سجلات لا نهائية عن مواقفنا السياسية وحياتنا العاطفية وعلاقاتنا الاجتماعية والمهنية واتجاهاتناوتطلعاتنا الاستهلاكية، وكل شئ تقريبا. وعندما يتعلق الأمر بالمسائل الصحية، فإن الاختراق لا يتعلق فقط بآراء أو تفضيلات أو رغبات، ولكنه اختراق لأكثر الأشياء حميمية أى الأجساد. إننا نتحول إلى سجلات صحية مكشوفة محفوظة فى أماكن لا تعرفها، لتكون مواد وسلع لاستخدامات واستثمارات لا ندرى عنها شيئا. صحيح أن الأجساد كانت دائما موضع رقابة صحية. فقد أصبح لنا بالفعل سجلات صحية ضمن أرشيفات المستشفيات ومعامل التحاليل والعيادات الطبية، وكلها مخزنة ومحفوظة على شبكة الإنترنت. ولكن ما يحدث الآن ربما يكون خطوة أكثر تقدما، لأن الأمر قد لا يرتبط بالإدلاء الطوعى بالمعلومات والبيانات الصحية، وإنما بالتتبع والرقابة من خلال هواتفنا الذكية التى نملكها لترسل بيانات تلقائية عن حالتنا الصحية، بيانات لا نرسلها وإنما ترسل ذاتها إلى حيث لا ندرى.
قد يسعد البعض بهذه التطورات التكنولوجية “المبهرة”، باعتبار أن التطبيقات المقترحة تحمينا من الأوبئة وتحررنا من الأمراض، وقد لا يعبأ الكثير من البشر بموت الخصوصية. ولكن هناك من يصيبه القلق وربما الذعر من سطوة الشركات التى باتت تملكنا كمعلومات وبيانات. وعلينا أن نفكر جديا فى حقيقة أن العلاقات خارج الانترنت والتطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي باتت لا تلائم متطلبات وجشع امبراطورية المعلومات، فعلى الجميع ترك عالمهم الاجتماعى وإعلان الولاء والطاعة لأباطرة العالم الافتراضى. وحتى نفعل بحماس وعن طيب خاطر، فقط علينا أن نقتنع تماما بأننا نتنازل على علاقتنا الحميمية وخصوصيتنا من أجل الحفاظ على الصحة والأمن وتحقيق السعادة!