“سيناء” أرض الشمس والقمر والفيروز، وهي أيضاً أرض الأنبياء، حيث كانت الطريق الذي سلكه الأنبياء إلى مدخل الوادي. فقد سلكه أبينا إبراهيم – أبو الآباء – وأولاده يعقوب ويوسف، وأيضاً العائلة المقدسة في بداية القرن الأول الميلادي. وقبل ذلك كانت سيناء هي طريق المصريين القدماء إلى بلاد الشام حيث شهدت خروج جيوش الفراعنة لصد الغزوات التي كانت تطمع في مصر.
كانت “سيناء” تُسمى في العهود السابقة باسم “نوشريت” أو “الأرض الجرداء” وسماها الآشوريون باسم “مدين”. وتُعتبر شبه جزيرة سيناء “قنطرة النيل إلى الأردن والفُرات”، وأيضاً “الوصلة البرية بين أفريقيا وآسيا”، وهي تلك البادية الشهيرة التي تصل “مصر” بدول الشام وقد أخذت شكلاً مثلثاً.
وتُعد سيناء من أروع وأفضل المصايف لا في مصر وحدها بل في العالم كله، فمناخها يمتاز على جميع الارتفاعات بالهواء المُنعش النقي، كما تمتاز مناظرها الطبيعية الخلابة الفاتنة بالألوان الرائعة والهدوء، هذا فضلاً عن تاريخها الديني والسياسي والاجتماعي العريض الذي مازالت معالمه راسخة وآثاره باقية، تلك الآثار التي ذُكرت في الكتب السماوية. كل هذا جعل سيناء منطقة تسترعى انتباه العالم أجمع وتجذبه للسياحة، وخاصة المنطقة الجنوبية منها حيث “جبل موسى”، وجبل “سانت كاترين” و دير “طور سيناء” القديم التي تُعد من المناطق السياحية العالمية ذات المميزات الفريدة. وبينما سواحلها المُطلة على البحر الأحمر، تُعد قبلة للسياحة الترفيهية، ومناخها الدافئ النقي يؤهلها لتكون من أفضل المواقع لمنتجعات السياحة العلاجية في العالم.
ومن أهم مدن “سيناء” مدينة “العريش” التي قال عنها القدماء أنها أرض “الظل والظليل” لأنها كانت تحميمهم من قيظ الصحراء، فقد كانت بالنسبة لهم مثل “الواحة الخضراء”، ويُقال عنها اليوم إنها “أرض المستقبل” لما فيها من كنوز الأرض الطبيعية ، كما تُسمى “البوابة الشرقية لمصر”، وقد سُميت بـ “العريش” عند الفتح الإسلامي لمصر في عهد الخليفة عُمر بن الخطاب، حيث استخدم الجنود سعف أشجار النخيل لبناء سقوف الأكواخ التي أقاموا فيها، وقد سُميت هذه السقوف بـ “العُرش” وهي جمع كلمة “عريش” التي تعني (كل ما يُستظل به)، وكانت العريش تحتل مكانة متميزة سواء في التاريخ القديم أو الحديث.
وقد اشتهرت سيناء تاريخياً بأماكنها المقدسة التي اكتسبت أهمية خاصة منذ أقدم العصور التاريخية، فقد ذهب أحد المؤرخين إلى أن اسم سيناء مأخوذ من اسم (إله القمر البابلي – سين)، كما عُرفت سيناء أيضاً بأرض الفيروز نسبة إلى سيدة الفيروز الآلهة (حتحور) التي مُثلت على شكل بقرة بقرون، وعلى رأسها قرص الشمس، ومنحت الألقاب، ونحتت على جدران المعابد مناجم الفيروز.
وللمصريين القدماء في شبه جزيرة سيناء آثار كثيرة أهمها: هيكل لعبادة الألهة “هاتور” والآلهة “سيدو” في سرابيت الخادم ووادي المغارة والفرما والتل الأحمر عند القنطرة. هذا إلى جانب ما تركه الأغريق والرومان من آثار مدائنهم وقلاعهم وأبار مياههم، فضلاً عن السدود والأديرة والكنائس في بلاد الطور “دير طور سيناء” وأديرة ووادي “فيران” وكنيسة في الطور وقلعة في جبل المغارة.
دير سانت كاترين
دير سانت كاترين يُعتبر من المعالم السياحية الفريدة في سيناء، وقد سُمى الدير باسم القديسة “كاترين” ابنة أحد أثرياء الإسكندرية. وقد ورثت الابنة كاترين كل عادات الفراعنة من حكمة وأخلاق وأصالة. كانت الأم تشعر بأنها مجد لزوجها، والأب كان يحب بيته، كانا يصليان معاً ويصومان معاً، يفرحان بزيارة المريض وتشجيع المسجونين من أجل الحق، أولئك الذين كانت تعج بهم السجون الرومانية في الإسكندرية. في هذا الجو الأسري الرائع نشأت الطفلة كاترين. أدخلتها أمها أعظم مدارس عصرها فتعلمت أحدث العلوم العصرية، كما كانت مواظبة على مطالعة الكتاب المقدس، ومن حُسن حظها أنها كانت تعيش في مدينة الفلاسفة والعلماء، في المدينة التي كانت تضم مدرسة العلاّمة “أوريجانوس” الشهيرة التي علَمت أكابر القوم وفلاسفتهم وصيّرتهم متعمقين في كل معرفة لاهوتية.
كانت المملكة الرومانية نحو عام 306 م مُقسمة بين القياصرة الثلاثة قسطنطين الكبير، ليسنيوس، مكسيميانوس. وكانت مصر تابعة لإمارة مكسيميانوس. وكان هذا القيصر مستبداً عاتياً متكبراً، يُبغض المسيحين ويحلوا له الفتك بهم وتعذيبهم. فأراد أن يُبهر مصر بغناه وسلطانه، فأصدر منشوراً بتجديد الشعائر الدينية الوثنية التي هجرها الناس: (فعلى كل واحد أن يذهب إلى المعابد ويقدم قرابين للآلهة. أما الذي يعصى هذا الأمر فإنه يخاطر بحياته كلها). أطاع الكثيرون – من غير المسيحيين – المنشور وذهبوا إلى المعابد يحملون معهم الضحايا للذبح. رأت كاترينا ذلك، وشعرت بأن الرعب قد بدأ يدب في قلوب المسيحيين فعزمت على أمر ما، كانت تخرج من قصرها كل يوم وتطوف في شوارع الإسكندرية وتدعو المسيحيين إلى اجتماعات خاصة وتشجعهم وتُثّبت عزائمهم. كانت فى ذلك الوقت تبلغ الفتاة كاترينا الثامنة عشر من عمرها!! لم تفكر في ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج، كانت مستعدة بالتضحية والكرازة حتى الموت!! شاع اسم كاترينا على كل لسان في بيوت المسيحيين في الإسكندرية، وانقاد لكلامها الشيخ والشاب والفتى والفتاة والآباء والأمهات. أرادت كاترين أن تُعطى مثلاً عالياً للمسيحيين فلا يهابون الموت ولا الاستشهاد متى دعاهم إلى ذلك واجب الطاعة بالمجاهرة بالإيمان المسيحي، فقررت أن تواجه الإمبراطور نفسه حينما يحضر هذا الحفل الكبير وتحاججه وجهاً لوجه!! في يوم الاحتفال الكبير .. كانت فتاة صغيرة تخترق الكتل البشرية، تسير بخطى ثابته كأنها مُقدمة على مهمة خطيرة .. ودنت كاترينا من المعبد الملاصق للقصر الذي حل فيه الإمبراطور بالإسكندرية ورفعت إلى الإمبراطور بواسطة الحُراس رغبتها في أن تقابله. أتت الموافقة .. وتقدمت كاترينا إلى داخل القصر، وحينما دخلت، رأت الإمبراطور جالساً وحوله الوزراء والقادة والضباط وكهنة الأوثان الرافلين بالحلل الأرجوانية المُذهبة استعداداً للاحتفال العظيم بتقديم الذبائح. قدمت كاترينا تحياتها إلى الإمبراطور، ثم بدأت معه كلامها بهدوء قائلة: (إنى سأكون مسرورة جداً، حينما يعرف سيدى الإمبراطور خطأه والنتائج الخطيرة لمنشوره الأخير). أخذت كاترينا تتكلم في هدوء .. وأنصت الإمبراطور في هدوء أيضاً، وقد ذُهل من ذلك التأثير والنفوذ الذين أنبعثا من شخصية الفتاة. ولما كان الإمبراطور غير مُلماً بعلوم الفلسفة فقد أتى بعلماء المملكة لمناقشتها. وقد حدث، وبعد مناقشات فلسفية مستفيضة اقتنع الفلاسفة بكلام الفتاة الصغيرة كاترينا!! وهنا غضب الإمبراطور وتحول إلى وحش مفترس وأمر بإيقاد أتون النار، ليلقى فيه العلماء والفلاسفة الذين خذلوه، وأشعل الحراس أتون النار في ردهة واسعة داخلية بالقصر. وفجأة انفتحت أبواب الصالة الفسيحة .. وتقهقر مندوب الإمبراطور إلى الوراء، بينما تقدم العلماء ليقبض الحراس عليهم ويدفعونهم وسط الفحم المتقد .. وكان ذلك ليلة 17 نوفمبر من عام 307م. وبعد أن أنطفأت النيران مُخلفة وراءها رماد عظام هؤلاء الأبطال تقدم المسيحيون ليجمعوا ما بقى منهم من عظام وملابس ثم قاموا بدفنهم.
استمرت الفتاة كاترين على إيمانها، حتى أن “فوستان” زوجة الإمبراطور توجهت إليه واخذت تعاتبه على أفعاله وتعذيبه للفتاة كاترينا بطرق شتى. وهنا جن جنون الإمبراطور لما سمع ذلك الكلام من زوجته وعرف أنها صارت مسيحية هى و”بورفيروس” القائد. فأمر الجند بتعذيبهما ثم قطع رأسيهما. وفى ذلك اليوم استشهدت زوجة مكسيميانس والقائد بورفيروس ومئتان من الجند!! أما بالنسبة للفتاة كاترينا فقد أمر الإمبراطور بقطع رأسها، فركعت وطلبت من الجلادين أن يكملوا واجبهم فضربوا رأسها بحد السيف وكان ذلك فى يوم 25 نوفمبر سنة 307م. وهنا يذكر رهبان جبل سيناء القصة الآتية: (بعد أن استُشهدت القديسة كاترينا، حمل بعض الرهبان جسدها إلى أحد مرتفعات جبل سيناء – الذى هو جبل كاترين حالياً – وظل الجسد مُسجى هناك حوالى خمسة قرون فى حفرة من الصخر. وفى الوقت المناسب توصل بعض الرهبان إلى مكان الجسد المُسجى وكانت القصص المتواترة عندهم – حسب التقليد – تؤكد أنه للقديسة كاترينا، وما وجدوه كان عبارة عن الرأس عارية متوجة بالزمرد، واليد اليسرى مغطاة بجلد أسود مُزين بخواتم بها أحجار نادرة وكريمة).
أما صورة القديسة كاترينا بها القديسة لابسة تاجاً إشارة غلى نسبها الملكى، وممسكة بيدها فرع نخيل رمزاً إلى نصرتها، وسيفاً إشارة إلى طريقة استشهادها. وأحياناً يصورونها ممسكة بكتاب رمزاً إلى ثقافتها العالية.
القديسة كاترينا
أما بالنسبة لدير القديسة كاترين، حين تدخل الكنيسة الكبرى ترى تحفة معمارية من الزمن القديم، وهى تُعد من أقدم الآثار المسيحية فى صحراء سيناء، وتُعرف باسم الكاتدرائية وهى إحدى الكنائس الهامة لما حوته جدرانها من فسيفساء قديمة إضافة إلى تحفها. ويزيد من أهميتها التاريخية إلى أنها احدى الكنائس القليلة التى يعود بناؤها إلى عهد الإمبراطور “جوستينيان” (482 – 565م). الكنيسة الكُبرى غنية بمجموعة أيقوناتها. كنيسة العُليقة التى تجاور الكنيسة الكبرى عبارة عن غرفة صغيرة جميع جدرانها مغطاة بالصينى. مكتبة الدير تُعد من أسباب شهرة الدير لثرائها بالكتب والمخطوطات النادرة من مختلف العصور ومختلف اللغات والتى بلغ عددها أكثر من 6000 مُجلد، ومن أهم المخطوطات فى المكتبة وأقدمها “الانجيل السريانى”.
حدث فى عام 1945 أن أختارت جامعة الإسكندرية الأستاذ الدكتور عزيز سوريال عطية (1898 – 1988م) للمشاركة فى رحلة علمية إلى دير سانت كاترين، بالإشتراك مع المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان وذلك بهدف تصوير مخطوطات ووثائق مكتبة الدير. وقد إشترك معه فى هذا العمل الضخم صديق عمره الأستاذ يسى عبد المسيح (1898 – 1959) – أمين مكتبة المتحف القبطى بالقاهرة فى ذلك الوقت. وبعبقريته وصبره وإخلاصه وتفانيه فى العمل كشف عن عدد من مخطوطات الدير النادرة وبخاصة فيما يتعلق بتاريخ المسيحية الشرقية وآدابها حيث قام بتصوير المهم من هذه المخطوطات فى حوالى 2 مليون صفحة فى 12 لغة أهمها اليونانية وثانيهما فى الأهمية العربية. وقد قامت دار النشر “جون هوبكنز” John Hopkins عام 1955 بنشر كتابه بعنوان “المخطوطات العربية فى دير سيناء”.
الدكتور عزيز سوريال عطية
الأستاذ يسى عبد المسيح
من هنا تأتى أهمية دير سانت كاترين الدينية والتاريخية والسياحية وأيضاً السياسية، والتى يقصدها الزوار من أنحاء العالم لمشاهدة الدير الأثرى، والتبرك من رفات الشهيدة السكندرية كاترينا، والتمتع بالمناخ الرائع والهدوء الذى ليس له نظير، ولن تتمكن أيدى الإرهاب الأسود من الوصول إلى الدير. مبارك شعبى مصر.
الأثار الإسلامية بسيناء
ينحصر معظمها فى أثار قلاع العريش وبعض الجوامع والنقوش العربية المنحوته على الصخور والجبال. ففى الطور يوجد جامع وأطلال قلعة، وجامع فى دير سيناء وقلعة فى جزيرة فرعون، وكذلك فى العديد من الأماكن الأخرى.
ومن بين أهم هذه الآثار: قلعة العريش التى شيدها السلطان سليمان نجل السلطان سليم الأول عقب فتح العثمانيين لمصر، وهى مستطيلة الشكل مبنية بالحجر الرملى الصلب، وقد أحاط بالقلعة قديماً خندق متسع، وكان أهم دور لقلعة العريش أنها قاومت نابليون بونابرت. قلعة صلاح الدين الأيوبى، وقد شُيدت لكى تؤمن سيناء وتكون حصناً لصد غارات البدو والفرنجة، وهى تكاد تكون مستطيلة الشكل، أما زواياها فقد قويت بدعامات مربعة أو مستديرة، وكان لكل برج دعامة ساندة، وبلغ سُمك جدار القلعة الخارجى مترين. قلعة العقبة تلك التى أمر بانشائها السلطان قنصوه الغورى ورممها السلطان مراد الثانى العثمانى، وهى تقع فى الطريق إلى المملكة العربية السعودية واللملكة الأردنية الهاشمية وصحراء النقب. قلعة نوبيع التى شيدتها نظارة الحربية المصرية (أى وزارة الحربية) عام 1893م، بعد تسليم قلعة العقبة إلى الدولة العثمانية.