ورثت مصر تراثا هائلا من العادات والتقاليد على مر العصور، خاصة طقوس شهر رمضان ومن المعروف أن قدرًا كبيرًا من العادات والتقاليد التي تمسك بها المصريون في إحياء المناسبات الدينية العديدة إنما ترجع أصولها إلى أيام الفاطميين بالذات، وهم الذين أسرفوا في إقامة الأسمطة (الموائد) في الأعياد والمواسم، وابتكروا ألوانًا من الطعام والحلوى ربطوا بينها وبين كثير من الأعياد الدينية، وكان من الطبيعي أن يحظى شهر رمضان بالذات بكثير من عناية الخلفاء الفاطميين ورعايتهم، فأسرفوا في ألوان الطعام والشراب فيه، وأكثروا من الزينات والأضواء في لياليه، وابتدعوا فيه عددًا من التقاليد المستحدثة التي ما زال بعضها باقيًا حتى اليوم.
ومن مظاهر الاحتفال في العصر الفاطمي بمصر كان يعهد فيه للقضاة بالطواف بالمساجد في القاهرة وباقي الأقاليم، لتفقد ما تم إجراؤه فيها من إصلاح وفرش سجاجيد جديدة وتعليق المسارج والقناديل، حتى إن الرحالة “ناصر خسرو” الذي زار مصر في القرن الخامس الهجري وصف “الثريا” التي أهداها الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط، بأنها كانت تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة، وكان يوقد به في ليالي المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل، وكان يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض، وما إن ينتهي شهر رمضان حتى تعاد تلك الثريا والقناديل إلى مكان أعد خصيصا لحفظها فيه داخل المسجد، كما أن الدولة في ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا ماليًا لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر الصوم.
اما عن أشهرالأسواق التي كانت تنشط فيها الحركة التجارية خلال رمضان، سوق الشماعين بالنحاسين، فكان يعد من أهم الأسواق خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين، وكان موسما لشراء الشموع الموكبية التي تزن الواحدة “عشرة رطل” فما دونها، وكان الأطفال يلتفون حول إحدى الشموع وبأيديهم الفوانيس يغنون ويمضون بموكبهم المنير في الحواري بعد الإفطار حتى صلاة التراويح، أما “سوق الحلاويين”، الذي كانت تروق رؤيته في شهر رمضان فكان من أبهج الأسواق بالنسبة للمصريين في ذلك الوقت، كان يصنع فيه أشكال خيول وسباع وغيرها من السكر تسمي “العلاليق”.
وكان هناك أيضًا سوق السمكرية داخل باب زويلة “بوابة المتولي بالغورية”، يعج بأنواع الياميش، وقمر الدين والمكسرات، وكانت وكالة “قوصون” شارع باب النصر التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري مقر تجار الشام ينزلون فيها ببضائع من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب، وعندما خربت وكالة “قوصون” في القرن التاسع انتقلت تجارة المكسرات إلى وكالة “مطبخ العمل” بالجمالية، وكانت مخصصة لبيع أصناف النقل كالجوز واللوز.
و كان يتم عرض العديد من أنواع الحلوى مثل “القطايف” و”الكنافة” إذ يقال إن الكنافة صنعت “مخصوص” للخليفة الأموي “سليمان بن عبدالملك”، كما قيل إنها صنعت للخليفة “معاوية بن أبي سفيان”، وكانت الكنافة والقطايف موضع مساجلات بين الشعراء، وهناك رسالة لجلال الدين السيوطي عنوانها: “منهل اللطايف في الكنافة والقطايف”.
ومن مظاهر احتفالات الخليفة الفاطمي برمضان وما يقدم على الموائد فقد كان لها تقاليد رسمية، حيث كان الخليفة يخرج في مهرجان إعلان حلول رمضان من باب الذهب “أحد أبواب القصر الفاطمي”، متحليًا بملابسه الفخمة وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة، وأمامهم الجنود تتقدمهم الموسيقى، ويسير في هذا الاحتفال التجار صانعو المعادن والصاغة، وغيرهم الذين كانوا يتسابقون في إقامة مختلف أنواع الزينة على حوانيتهم فتبدو الشوارع والطرقات في أبهى زينة، كما أن الدولة في ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف للمساجد في شهر رمضان.
و يعود أصل موائد الرحمن في رمضان والتي يجتمع عليها الغني والفقير الى العصر الفاطمي، وكانت تعرف بـ“سماط رمضان”، ويقول عنها المقريزي
“كان السماط يمدّ في (قاعة الذهب) بالقصر الشرقي الكبير في ليالي رمضان وفي العيدين. وهذه القاعة كان بها جلوس الخلفاء في الموكب يومي الاثنين والخميس، وبها كان يعمل سماط رمضان للأمراء وسماط الطعام في العيدين”.
ويعتبر الخليفة الفاطمي العزيز بالله (344- 386ه/ 955- 996م)أول من عمل مائدة في شهر رمضان يفطر عليها أهل الجامع العتيق (عمرو بن العاص)، وأقام طعامًا في الجامع الأزهر مباحًا لمن يحضر في شهور رجب وشعبان ورمضان، وكان يخرج من مطبخ القصر في شهر رمضان حسب تقدير بعض المؤرخين حوالي 1100 قدر من جميع ألوان الطعام، توزع كل يوم على المحتاجين والضعفاء.
وكان الخليفة العزيز بالله ومن بعده المستنصر بالله يهتمون بموائد الإفطار التي تقام في قصر الذهب للأمراء ورجال الدولة، وكذا التي تقام في المساجد الكبرى للفقراء والمساكين حتى قيل أنه بلغت نفقات شهر رمضان مدة 27 يومًا ثلاثة آلاف دينار.
وبالإضافة إلى مائدة القصر كانت هناك موائد أخرى في الجامع الأقمر (أحد المساجد الفاطمية الموجودة بشارع المعز لدين الله (حي الجمالية), والجامع الأزهر، وأواني أخرى مملوءة بالطعام تُخرجها مطابخ قصر الخليفة للمحتاجين.
وحرص القائمون على السماط على تقديم مختلف أصناف المأكولات والأغذية، وكان الفراشون على استعداد لتلبية أي مطلب من المدعويين إلى السماط. وكان القائمون على قصر الخليفة الفاطمي يوفرون مخزونًا كبيرًا من السكر والدقيق لصناعة حلوى رمضان مثل الكنافة والقطايف وغيرها.
ومما يرويه المقريزي في هذا الشأن أيضًا “.. أنه كان يتقرر عمل صواني من الحلوى والكعك، ويعمل خمسمائة رطل حلوى يتم توزيعها على المتصدرين والقُرّاء والفقراء ثم يجلس الخليفة في القصر، ويتوافد كبار رجال الدولة ويتلو المقرئون القرآن الكريم ثم يتقدم خطباء الأزهر وجامع الأقمر مشيدين في خطبهم بمناقب الخليفة، ثم ينشد المنشدون ابتهالات وقصائد عن فضائل شهر رمضان”.
– دار الفطر:
لم تندثر موائد الرحمن باندثار الدولة الفاطمية في مصر، بل ورثت عنها الدولة الأيوبية ومن بعدها الدولة المملوكية هذا المظهر الرمضاني الرائع، وفي العصر الحديث والمعاصر حرص الأغنياء من المصريين على إقامة تلك الموائد الرمضانية، التي لا تزل تقوم بدورها حتى الآن كمظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي في مصرنا الحبيبة.
وكان موكب الخليفة فى بداية شهر رمضان يبدأ من “بين القصرين”، شارع المعز حاليا، حيث يسير وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة، وأمامهم الجنود تتقدمهم الموسيقى، ويسير في هذا الاحتفال التجار صانعو المعادن والصاغة، وغيرهم الذين كانوا يتسابقون في إقامة مختلف أنواع الزينة على حوانيتهم فتبدو الشوارع والطرقات في أبهى زينة ويسيرالموكب في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح “أحد أبواب سور القاهرة الشمالية”، ثم يدخل من باب النصر عائدًا إلى باب الذهب بالقصر، وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء، وحينما يعود إلى القصر يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن في مدخل القصر ودهاليزه، حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة، فيغير ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته طبق من الفضة الخالصة مملوء بجميع انواع الحلوى، تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية، وتوزع الكسوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على الموظفين والفقراء، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عاداته، وعقب انتهائه من ذلك يأمر بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان.
وكان الخليفة الفاطمي يصلي أيام الجمعة الثلاث في رمضان، الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب، يصلى الجمعة الثانية في جامع “الحاكم الأمر الله”، الثالثة في الجامع الأزهر، أما الرابعة التي تعرف بالجمعة اليتيمة كان يؤديها في جامع “عمرو بن العاص”، وكان يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود لبخور موكبه، وعقب صلاة الجمعة الأخيرة يذاع بلاغ رسمي كان يعرف “بسجل البشارة”، وآخر ليلة من الشهر الكريم كان القراء والمنشدون يحيونها في “القصر الشرقي الكبير” وويستمع لهم الخليفة من خلف ستار، وفي نهاية السهرة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب.