يأتى اليوم ذكرى إنشاء كنيسة مار مرقس بشبرا فى رحلة مشوارها 67 عاماً على يد آباء اجلاء مرسوم حياتهن للخدمة لتصبح كنيسة مارمرقس بشبرا بحق كما يقال عنها كاتدرائية شبرا منذ أن بدأت بفكرة ثم كيان صغير إلى أن أصبحت لما هو عليه من منارة عالية .
أول من فكًّر وسعى لإنشاء كنيسة داخل المنطقة هم جمعية أصدقاء الكتاب المقدس التى تأسست فى القاهرة عام 1908 .. وكانت لها بركة تأسيس كنيسة أخرى قبلها.. وهى كنيسة الشهيد مار مينا بالمندرة بالإسكندرية التي أسستها عام 1932م لخدمة المصيفين، ثم صارت تخدم قطاع عريض من حى المنتزه بالإسكندرية، وفى عام 2015 صارت مقراً لنيافة الحبر الجليل الأنبا بافلى أسقف عام كنائس المنتزه وقطاع الشباب بالإسكندرية..
فى سنة 1950م ، أشترت الجمعية 1500 متر مربع من تقسيم الشركة البلجيكية بأرض شريف بحدائق شبرا، والواقع أن الإدارة العقارية للشركة البلجيكية كانت قد خصصت مساحة أكبر للكنيسة بطول المسافة من شارع الكنيسة وحتى قرب شارع محمد الخلفاوى، و لكن نظراً لضعف الإمكانيات المادية، حال الأمر دون شراء كامل المساحة.
وتم شراء الجزء الحالي فقط بمبلغ 9000 ( تسعة آلاف ) جنيهاً، دُفِعَت على أقساط، إذ لم يكن للجمعية رصيد كاف، و الجدير بالذكر أن كتاب حياة الأنبا أنطونيوس للقديس أثناسيوس الرسولى الذى كان قد ترجمه عن الإنجليزية الأستاذ حافظ داود ( القمص مرقس داود ) – و كان عملاً مبهراً فى ذاك الوقت المبكر من القرن العشرين – كان مخصصاً إيراده لتكملة شراء الأرض التى بنيت عليها الكنيسة .
بدأ النشاط الخدمي لجمعية الأصدقاء فى هذه الأرض بإقامة خيام الأصدقاء، و لكن كان لابد من بناء سور يحيط بالأرض، فتبرَّع المرحوم المقاول زكى النخيلى ببناء السور من ماله دون أن يستلم أى مقابل، و كان السور من الطوب الأحمر بإرتفاع مترين ونصف، و يذكر أن أرض الكنيسة كانت منخفضة عن مستوى الشارع بحوالى 130 سم وكان يحرس الأرض غفير ذو بنية قوية يدعى عم جرجس، و أيضاً تطوَّع صاحب محطة البنزين بالخلفاوى بإدخال التيار الكهربائى لقطعة الأرض.. وإختبر الجميع يد الرب الرب فى العمل .
كنيسة خشبية
إبتدأت الخدمة بعمل كنيسة خشبية من بقايا الكنيسة المؤقتة التى كانت بكنيسة مار مينا بالمندرة بالإسكندرية بعد بناء المبنى الحالى بها ، فتم نقل الأخشاب إلى القاهرة .. وأقيمت كنيسة مؤقتة فى الجانب القبلى من الأرض ( فى نفس مكان مبنى الخدمات الحالى حيث مذبح السيدةالعذراء والقمص ميخائيل إبراهيم ) و كانت لها سقف جمالون خشبى أيضاً ، أما باقى الأرض فكان يستخدم لأنشطة الجمعية و التى تتمثل فى النادى الإجتماعى الذى يشمل غالبية أرض الكنيسة ، حيث كان مقاماً ملعب للباسكت بول، وثلاث حجرات متجاورة فى أقصى الركن الشمالى الشرقي (حيث هياكل الكنيسة بالدور الأرضى حالياً ) و كانت حجرات بسيطة لها سقف خشبى أيضاً ( تعريشة )، كانت أحدهم لخدمة التربية الكنسية، والأخرى لمستلزمات النادى ( صالة بنج بونج )، والثالثة كانت تستخدم كقلاية لسكن الأب الراهب المنتدب لخدمة الكنيسة – حيث تعاقب على خدمتها فى البدايات عدد من الأباء الرهبان كان آخرهم يدعى القس زكريا السريانى – والعجيب أن مكان القلاية هو حالياً نفس مكان مقر نيافة الحبر الجليل الأنبا أنجيلوس أسقف عام كنائس شبرا الشمالية .. وفى أقصى الجانب البحرى الشرقى كان هناك فرن القربان ( فى نفس مكانه الحالى ) وكان أول قرابنى للكنيسة يدعى عم حبيب.. كانت هناك أشجار كافور وكازورينا وخروع مزروعة بالأرض خاصة بجوار السور البحرى ( أمام حجرة القمص برسوم بشرى حالياً ).
رغم أن الكنيسة كانت فى إحتياج شديد للمال لأجل بنائها ، إلا أن المعاصرين لتلك الفترة يذكرون أنك ما أن كنت تدخل الكنيسة الخشبية إلا وتجد هذه العبارات معلقة فى لافتات على الأعمدة الخشبية :
* ” مجاناً أخذتم .. مجاناً اعطوا ”
* ” جميع الخدمات الروحية مجـــانــاً ”
* ” الصناديق بدلاً من الأطباق ”
* ” لا تعرف شمالك ما تفعله يمينك ”
* ” العطـــاء فى الخفاء ”
… وهذه هى المبادئ التى قامت عليها الكنيسة ..
وحين كان يسأل البعض: كيف ستبنون كنيستكم بهذه المبادئ؟
كان أعضاء لجنة البناء يقولون:
“إنه بيت السيد المسيح.. فإن أراد فليبنيه .. وإن لم يرد، فليفعل ما يشاء..”
لأنه: ” إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البنَّاؤن ”
..وبالفعل إختبر الجميع قوة عمل الله واعترفوا بصدق مواعيده، فقد عمل الله فى قلوب المصلين،
وكانت الصناديق تمتلئ بالأموال اللازمة فى حينها حسب الإحتياج ..
وتكرر هذا الأمر مراراً مراراً كثيرة عبر تاريخها وإلى الآن ، لم تحتاج الكنيسة إلى شئ ما، إلا ويدبره الرب بطريقته العجيبة، وما أكثر هذه الإختبارات الإيمانية التي كان عاصرها الكثيرين، والتي تصل إلى درجة المعجزات بالحقيقة..
يوم الافتتاح
إتسعت الخدمة جداً، وبدأ التفكير فى إقامة المبنى الدائم للكنيسة من طابقين، وتزامن هذا الوقت مع قيام ثورة يوليو 1952 وإعلان قيام الجمهورية، وتولى الرئيس محمد نجيب رئاسة مصر.
إنتهزت جمعية الأصدقاء الفرصة لدعوة الرئيس محمد نجيب لوضع حجر الأساس للكنيسة، وفوجئوا بقبول الرئيس للدعوة!! (وبذلك تكون أول كنيسة فى تاريخ مصر الحديث يقوم بوضع حجر أساسها رئيس الجمهورية بنفسه، ولم يتكرر هذا الأمر سوى مرة وحيدة أخرى فى وضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية الكبرى بالعباسية في عهد البابا كيرلس السادس حيث قام الرئيس جمال عبد الناصر بوضع حجر أساسها عام 1965 وحضر أيضاً الإحتفال الرسمى بإفتتاحها عام 1968 – ونشكر الله أننا في أيامنا الحالية يتكرر هذا الأمر مرتين في عهد الرئيس المحبوب عبد الفتاح السيسي – إذ قام سيادته العام الماضي بإفتتاح كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدراية الجديدة، ومنذ أيام قلائل إفتتح سيادته كاتدرائية السيدة العذراء والأنبا كاراس السائح بمنطقة بشاير الخير(3) بالقباري بالإسكندرية بحضور صاحب القداسة البابا تواضروس الثاني)..
تم تحديد موعد يوم 24 مايو 1953م لهذه المناسبة التاريخية..
لم يستطع البابا يوساب الثانى 115 الحضور بنفسه لظروفه الصحية و إنتدب نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف و البهنسا (الكبير) ومعه الأنبا مكاريوس أسقف ورئيس دير البرموس… فبدأ اليوم بصلاة القداس الإلهى لعيد حلول الروح القدس..
أُقيم سرادق الإحتفال فى الأرض الفضاء ( مكان الكنيسة الحالية )، وفى الساعة الخامسة مساءأ، أُقيمت صلوات السجدة المقدسة وإستمرت حتى الساعة السابعة مساءاً، حيث بدأ توافد المدعوون للحفل حتى الساعة الثامنة مساءاً، حيث حضر السيد الرئيس محمد نــجــيــب، وقـامت الجموع لتحييه ورافقوه إلى المنصة المعدة للإحتفال، حيث جلس يحيط به الأنبا أثناسيوس والسيد كامل بك بولس حنا ( رئيس جمعية أصدقاء الكتاب المقدس وقتئذ ) …
بدأ الحفل بصلاة الشكر، صلاّها الأنبا أثناسيوس، ثم بدأ الحفل بعزف الأناشيد الوطنية و الدينية لفرقة المعهد الفرعوني للموسيقى القبطية بقيادة الفنان ملاكة عريان، ثم بدأ الأنبا أثناسيوس بكلمة شكر لله الذي سمح ببناء كنيسة في هذا المكان، ثم شكر السيد الرئيس الذي لبّى الدعوة وحضر رغم مشاغله، ثم وجّه شكراً لكل من ساهم وتعب فى هذا العمل الكبير ..
ثم تحدث رئيس الجمعية مرحباً بالسيد الرئيس، وتحدث على أن هذا العمل هو ثمرة من ثمرات الإيمان ،فالجمعية بلا رأس مال كبير للقيام بهذا المشروع، ولكن لديهم رصيداً أكبر هو الإيمان العميق في قوة الله ومحبته، ورجاؤهم الوطيد فى الله الخالق الذي من يؤمن به يكون لديه القدرة على زلزلة الجبال ونقلها من مكان إلى آخر..
كلمة رئيس الجمهورية
تحدث السيد الرئيس حديثاً شيقاً طويلاً، ركّز فيه على أهمية بناء بيوت الله لكي تقوّى نفوسنا وتقوّمها، فتنتزع منها الشرور وبذلك تصبح النفس قوية فتستطيع أن تتغلب على كل الصعاب .. ومن أجمل ما قاله فى معرض حديثه:
” أشكركم على دعوتكم الكريمة لى بالتشرف بالمثول بينكم في هذا الحفل الكريم، لأن كل فرصة تُتاح لي لأن أتواجد بين مواطــنــىّ الأعـــزاء، لهى فرصة سعيدة أُقدّرها وتسعدني كل السعادة .. وأشكر كل من يساهم فى بناء هذا البيت الكريم من بيوت الله، لأننا في حاجة فعلاً إلى إنشاء الكنـــائـــس والمساجد وغيرها من بيوت الله والتى نُحيي فيها شعائر الله .. و نذكر أوامر الله تعالى التي يأمرنا فيها بالمحبة و السلام وبالكف عن الأذى والطغيان ومحاسبة أنفسنا وبالإحسان إلى الفقير، ولكل التعاليم المجيدة التى ينص عليها كل دين مهما إختلف هذا الدين.. ”
..الجدير بالذكر أن كلمة السيد الرئيس قد قوطعت مرات عديدة بالتصفيق الحاد …
بعدها طلب الرئيس الإنصراف – نظراً لتأخر الوقت- فقام ومعه صاحبا النيافة الأنبا أثناسيوس والأنبا مكاريوس وبعض اعضاء الجمعية إلى حيث حجر الأساس (فى الركن القبلى الغربى – مكان الكانتين حالياً )، ووضعوا فى داخله الكتاب المقدس ونسخ من الصحف الصادرة صباح هذا اليوم وبعض النقود المعدنية المتداوَلة وقتئذ وكذلك محضر يؤرخ للحدث العظيم مُوقّعاً عليه من الحاضرين وعلى رأسهم السيد اللواء رئيس الجمهورية و الأباء الحاضرين، وقد قدّم الأنبا أثناسيوس المسطرين للرئيس، فأخده بيده ووضع مونة الأسمنت فى المكان المعد لها وغطّاها بلوح آخر من الرخام .. وقد نُقِشَت على لوح من الرخام هذه الكلمات:
جمعية أصدقاء الكتاب المقدس القبطية الأرثوذكسية المركزية تضع حجر الأساس لكنيسة الشهيد العظيم مار مرقس في عهد حضرة صاحب الغبطة والقداسة البابا المعظم الأنبا يوساب الثاني
16بشنس 1619 ش – 24 مايو 1953م
(وحالياً توجد لوحة معدنية بديلة في مدخل الكنيسة الرئيسي تؤرخ لهذا الحدث…)
الجدير بالذكر ان الصور المرفقة عبارة عن صور ضوئية من مجلة رسالة الأصدقاء التي كانت تصدر عن جمعية أصدقاء الكتاب المقدس المركزية – عدد يونيو ويوليو 1953 – والذي يؤرخ ليوم إفتتاح كنيسة مار مرقس بشبرا