أنطون سيدهم.. والسياسة الداخلية
لقد كان نتيجة للزلزال أن انهارت بعض المباني الحديثة البناء وأشهرها عمارة مصر الجديدة التي أودت بحياة حوالي ستين ضحية بريئة كان منهم عائلات بأكملها، وتصدعت عمارات أخرى أخذت في الإنهيار وأفجعها عمارة مصر الجديدة التي انهارت الأسبوع الماضي وقتل فيها أكثر من عشرين شخصاً لا ذنب لهم ولا جريرة.. إن سبب انهيار هذه المباني هو طمع الملاك الذين رغبوا في الثراء السريع عن طريق الغش في إقامة هذه المباني ومواد بنائها، وأن الخلفية المؤلمة لهذه المشكلة هي قصة طويلة.
في السنوات الأولى للثورة المجيدة وطبقاً للسياسة التي اتبعتها في اكتساب محبة وتأييد الطبقات العريضة من الشعب على حساب قطاع صغير من الملاك سواء للأراضي الزراعية أو العقارات المبنية أو للشركات والبنوك والمنشآت المختلفة ، قامت هذه الثورة الجاهلة، ضيقة الأفق، قصيرة النظر في تخفيض إيجارات المباني المقامة بعد الحرب العالمية الثانية مرتين، مما جعل القيمة الإيجارية لهذه المباني تنخفض إلى النصف من قيمتها الأصلية، كما نصت هذه القوانين العرجاء على تكوين لجان لتقدير قيمة إيجارات المباني التي تقام بعد ذلك حسب قواعد مجحفة، كما كانت هذه اللجان تبالغ في تخفيض تقدير قيمة تكاليف إقامة المباني والذي عليه تقدر القيمة الإيجارية، مما جعل الإيجارات المقدرة زهيدة ولا تعطي عائداً مجزياً للمستثمر ، كما شددت العقوبات على الملاك وتعسفت في تنفيذها بقسوة شديدة، هي جعل الأهالي يحجمون عن إقامة المباني، وتوقفت عملية التشييد تماماً مما تسبب في أزمة عنيفة في المساكن.
وعندما بدأ الرئيس أنور السادات سياسة الانفتاح قام الكثير من أصحاب الأموال في إقامة العقارات، وتخلصا من قوانين تحديد الإيجارات الصارمة المجحفة، و اتبعوا سياسة جديدة لم تعرفها مصر من قبل، وهي طريقة بيع الشقق تمليك للأفراد، ولما كانت أزمة المساكن قد استحكمت حلقاتها في ذلك الوقت وخصوصاً للزيادة الكبيرة في السكان، مما جعل أغلب الشباب يتوقفون عن الزواج لعدم وجود مساكن لهم، فقد أقبل الشعب على شراء هذه الشقق، مستخدمين مدخراتهم أو بيع بعض أطيانهم أو عقاراتهم المشغولة بالسكان، أو الاقتراض، كما سافر الكثير من الشباب إلى الدول العربية للعمل هناك، لادخار المبالغ الكافية للشراء وتأسيس شقة لتأويه هو وعروسه وأطفاله.
وجد المستثمرون فرصة ذهبية في هذه العملية فقاموا ببناء العقارات وبيع شققها تمليكاً للأهالي، بل واتبعوا طريقة جديدة وهي شراء الأرض وبيع الشقق على الخرائط قبل بنائها على أن يسدد المشتري الثمن على أقساط حتى عند إتمام البناء يكون المشتري قد سدد ثمنها بالكامل، وبذلك يقومون بالبناء على حساب المشترين بدون أن يتكلفوا شيئا إلا ثمن شراء الأرض الفضاء، وحققوا بذلك أرباحاً طائلة.
احترف الكثير من المستثمرين هذه العملية مما جعلهم يربحون عشرات الملايين، كما أن بعضهم من خربي الذمة والجشعين وليحققوا أرباحاً مضاعفة تحايلوا ببناء أدوار زائدة عن الرخصة المعطاة، والتي يصعب على أساساتها تحملها، بل وقام الكثيرون بالغش في البناء سواء في إقلال أسياخ حديد المحددة أو إقلال الأسمنت عن النسب الفنية أو شراد حديد وأسمنت فاسد ولا يصلح، بفكرة أن هذا لن يظهر إلا بعد مدة طويلة، وكونوا بذلك ثروات ضخمة بهذا الغش الخطير.
جاء الزلزال فجأة ففضح هذه العملية الفظيعة الخطيرة، فانهارت بعض العمارات الضخمة كما تصدع البعض الآخر، وراح ضحية ذلك الكثيرون ممن اشتروا هذه الشقق والذين دفعوا ثمنها من دمائهم وتعبهم وتغربهم عن بلدهم وعائلاتهم، ومن كان سعيد الحظ منهم ولم يفقد حياته هو وعائلته أصبح لا يجد له مكانا يأويه، ويندب حظه التعيس على فقد كل ما كان يملكه والذي لن يعوضه.
لقد كان على الحكومة المتعاونة والقصيرة النظر، عند بدء عملية بناء العقارات وبيع شققها تمليكاً، أن تقوم بتشريع نظام لهذه العملية من حيث الرقابة على إقامة المباني هندسة ومواد، وتشديد العقوبات وزيادة التعويضات على الملاك الذين يقومون ببنائها والمهندسين الذين يشرفون عليها والمقاولين الذين يبنونها فعلا. كما كان يجب تشريع قانون خاص ينظم عملية بيع الشقق تمليكاً، إذ راح الكثيرون ضحية بيع الشقة لأكثر من مشتر والذين فقدوا مدخراتهم في عملية النصب عليهم.
نحن نرجو من الحكومة إصدار هذه القوانين بعد دراستها بدقة وبمعاونة أجهزة فنية متخصصة والاسترشاد بما تتبعه الدول التي لديها هذا النظام.