يثار بين الحين والآخر في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية إشكالية الصراع بين المعاصرة والتقليد الكنسي وينتهي الأمر إلى لا شيء لاعتبارات كثيرة، و نرى أنه يجب فتح هذا الموضوع المسكوت عنه وهو ضرورة ملحة لتلبية الكنيسة لاحتياجات شعبها لكي تستمر بأكثر فاعلية في أداء دورها المنوط بها.
جدير بالذِّكر أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أحد أهم صمامات أمان المحافظة على الإيمان المسيحي في العالم كله وتاريخها يشهد بذلك، وهي حريصة تماماً منذ عصورها الأولى وحتى وقتنا هذا على سلامة التعليم الصحيح حفظاً لسلامة الإيمان، وتسليمه لأجيال أخرى أمناء أكفاء أن يعلموا آخرين أيضاً فينتقل من جيل إلى جيل.
إن الإيمان في كنيستنا مصدره الكتاب المقدس الذي نؤمن بعصمته وأنه صالح لكل زمان ومكان، إما عن أقوال وتفسيرات الآباء القديسين وقرارات المجامع المسكونية، وكتب الطقس الكنسي وتسمي في مجموعها بالتقاليد الكنسية ذلك يجب أن يكون التجديد والمعاصرة متوافق مع تعاليم الكتاب المقدس.
حيث إنّ الانتقال من الرؤية التقليدية إلى رؤية أخرى معاصرة من شأنه أنْ يجعل الفكر الديني متناغمًا مع الحداثة، لكن كلّما كانت المؤسسة الدينية مصرّة على الانغلاق على ذاتها كانت أكثر بعدًا عن الإنسان وواقعه.
وهناك محاولات من البعض تجاهل الحداثة أو التخلّص منها أو احتوائها ويرونها من منطلقات دينية ضيقة خصمًا لهم وهو ما ولّد أزمة زاد من حدّتها تصلّب المواقف بين المحدثين والتقليدين، فاتسعت الفجوة بينهم.
كما أنّ التفاف البعض في الكنيسة على مطالب الحداثة في المستوى الفكري والاجتماعي والثقافي لم يدفع الكنيسة إلى الانفتاح على الحداثة بقدر ما وطّد فيها أركان نزعة الاحتواء المقنّع لها للسيطرة علي الناس، وهو ما قاد في نهاية الأمر إلى تباعد المسافات بين الطرفين بشكل لم يعد معه ممكنًا الحديث عن احتواء الكنسية للحداثة ومتطلّباتها.
لذا يجب علينا أن نجمع ما بين المنظوريْن؛ التراثي والمعاصر، ومن الضروري بمكانٍ أنْ نُدرِك أن بحثنا في كنوز الآباء لا ينفصل عن وعينا بواقعنا المعاصر، وما نستلهمه من الآباء نُقَوْلِبه في لُغة العصر لنُصِّدر خطابًا يُعبِّر عن الكنيسة التي تحمل في جعبتها جدداً وعتقاء، وأن نكون على استعداد للتجدُّد والمغامرة في التلامس مع إشكاليات العصر دون أن نقطع الخيط الذي يصلنا بهوّيتنا الإيمانيّة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل عالج الآباء إشكاليات إنساننا المعاصر مثل؛ عِلم الأجنّة، نقل الأعضاء، قيم الحداثة، العولمة، التغيُّرات المناخيّة والاحتباس الحراري وغيرها من الأمور. فِي اعتقادي أنّ تلك التحديّات هي وليدة ظرف تاريخي ومجتمعي وثقافي معاصر، وبالتالي لم تكن تحديّات في العصور الأولى للمسيحيّة، ويجب الأخذ في الاعتبار أن الأجوبة هي نتاج دراسات ووعي عام يتلامس مع الواقع.
يجب علينا فهم الفكر الآبائي بمعناه الصحيح وهو السير على خُطاهم، المُحاكي سيرتهم، الواعي بدوره المعاصر، المنفتح على قضايا وإشكاليات مجتمعه.
وعندما يثار خلاف داخل الكنيسة بين بعض الأشخاص لتحقيق مصالح شخصية ضيقة أو إدعاء مجد زائف مما يدعون أنهم حماة الإيمان وحراس العقيدة أو غيرهم من المحدثين فهي معارك ثنائية صفرية ومفتعلة لا فائدة منها ولا طائل من ورآها لأن كنيستنا مجمعية تتخذ فيها القرارات بعد مناقشات مطولة ودراسات عميقة ومتأنية من أعضاء المجمع المقدس.
ويجب أن يطمئن الجميع على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أقدم كيان مؤسسي على مستوى العالم حافظت على إيمانها وعقيدتها أكثر من ألفي عام، ولها قواعد إيمانية وتقاليد راسخة.
في تقديري أن الكنيسة تحتاج فى بعض الأمور إلى إعادة هيكلة وترتيب من الداخل في بعض النواحى الإدارية والتنظيمية حتى لا يحدث صدام -لا قدر الله- قد يعيقها عن أداء بعض مهامها، وينبغي وضع ضوابط للعمل داخلها للتقييم والرقابة والمساءلة والمتابعة المستمرة حتى تتمكن من أداء مهامها بفاعلية، ووضع شروط ومعايير واضحة ومحددة لاختيار كل من يتولى مسئولية داخل العمل بها وتحديد مهام عمله، والاستعانة بمجلس مستشارين فى جميع مجالات العمل داخل الكنيسة يكون مشهودًا لهم بالخبرة والأمانة. وينبغي تنمية الجانب المعرفي داخل الكنيسة، وكذا التواصل مع المخدومين لمعرفة احتياجاتهم ، ومنع تدخل رجال الدين فى السياسة ، والإسراع في إعداد دستور للكنيسة القبطية كما أوصى به المجمع المقدس.
وعلى الجميع نبذ أي خلافات شخصية والبعد عن الانقسامات وتغليب مصلحة الكنيسة على أي اعتبارات شخصية ومواكبة الحداثة والحرص على سلامة ووحدة الكنيسة لكي تؤدي دورها بفعالية ككنيسة قوية حية مؤثرة لتوصيل رسالة الأخبار السارة للعالم كله.