كلمتان حكيمتان, إحداهما لمفكر مصري هو قاسم أمين, والثانية لمفكر عالمي هو برتراند روسل, من كبار فلاسفة الإنجليز المعاصرين.
قرأت الكلمتين في يوم واحد, فبعثتا في نفسي تأملات كثيرة, وأفكارا كثيرة كلمة قاسم أمين قالها في كتابه: المرأة الجديدة وهي: أي زمن من الأزمان السابقة كان منزها عن العيوب حتي يصح أن يقال إنه نموذج الكمال البشري.. الكمال البشري يجب ألا نبحث عنه في الماضي, بل إن أراد الله أن يمن به علي عباده فلا يكون إلا في مستقبل بعيد جدا.
ونحن في مصر والشرق يجب أن نقف عند كلمة قاسم أمين هذه لنتخذ منها عبرة وفائدة فنحن في الشرق لايزال كثيرون منا يتجهون بعقولهم وقلوبهم ومشاعرهم إلي الماضي, يستلهمون آراءه وثقافته ومثله ومقاييسه للحياة واحترام الآباء وتمجيد الماضي عاطفة محمودة فلنذكر هذا الماضي وندرسه ونمجده علي أنه ركيزة من مشاعرنا وإحساسنا وتاريخنا نبني عليه ولكننا ننقده ونمحصه ونتجرأ عليه ونقدر رجاله وأهله علي أنهم ناس من الناس ليسوا منزهين عن العيوب ولا مجردين من النقائص, كما كانوا فعلا في واقع الأمر, يجب أن نخضع هذا الماضي ورجاله لمقاييس صادقة موضوعية مجردة فلا تعطية ولا نعطيهم من القداسة أكثر مما يستحق ويستحقون.
فذلك إحساس يعوق نشاطنا للتقدم, ويعطل سيرنا إلي مستقبل أكرم وأفضل.
احترام الآباء وتمجيد الماضي عاطفة حلوة ولكنها قد تكون مخدرة, والتطلع إلي المستقبل بإدارة شريفة واقتحام يدفع ويحفز ويربي, أما أن تنظر إلي الماضي نظرة المتحسر الذي يتمني لو أنه بقي, أو الذي يرجو أن يرجع ويعود فهذه هي الردة الضارة المعوقة التي نتمسك بأوهام مفسدة, فليس الماضي, كما قال قاسم أمين, منزها عن العيوب, وناموس الحياة قائم علي أن ما مضي لن يعود ويستقبلون الماضي يعارضون ناموس الحياة ويحاولون أن يعودوا بالناس إلي ما ليس لهم فيه خير, ولن يستطيعوا أن يعودوا بهم.
وعندنا في مصر والشرق سلفيون في الأدب وسلفيون في الحياة الاجتماعية, وسلفيون في الفهم والإدراك وهؤلاء جميعا تصدق عليهم كلمة قاسم أمين ويجب عليهم أن يتاملوها.
أما كلمة برتراند رسل فمؤداها أن المجتمع لا يستطيع أن يتقدم إلا بجهود المستقبليين دعاة التجديد والحرية, وكلتا الطائفتين المستقبليين والسلفيين, وجودهما ضروري, ولكن السلفيين يلقون أسنادا كثيرة من المجتمع القائم لأنهم يحافظون علي نظمه وأسسه التي ألفها, علي العكس من المستقبليين التقدميين, فهم يزعجون الجماهير بالدعوة للتحرر من الواقع المألوف, ويجاهدون ليخرجوا للناس شيئا جديدا لم يألفوه, أو ليدخلوا في حياتهم شيئا جديدا لم يألفوه أيضا يقول برتراند رسل هذا الكلام عن إنجلترا, أو عن أوروبا عامة, وهناك من ارتفاع مستوي الإدراك والثقافة, ومن الحرص علي حرية الرأي والفكر والقول, اسناد وإسناد لدعوة التجديد والتقدم وزيادة المستقبل واقتحامه, فما أشد حاجتنا نحن إلي هذه الدعوة, ومع أننا, في مصر والشرق, ما نزال في أمس الحاجة إلي من ينبهنا, بل يزعجنا, لكي نفيق من الغيبوبة التي تسيطر علينا بفعل عوامل كثيرة تربطنا, بل تقيدنا, بكثير من المفاهيم الخاطئة, والتقاليد الضارة, والمقاييس المفسدة, ومع أننا علي حال نعرفها وننكرها من سيطرة السلفيين وسطوتهم, مانزال نسمع كثيرا من الصيحات, كأنها صرخات الاستغاثة أن: حافظوا علي جميع التقاليد, عودوا إلي الماضي, الأخلاق في خطر, أنقذوا الوطن من دعاة الإفساد, ونجد في أحيان كثيرة أن صرخات الاستغاثة هذه تجد سميعا مجيبا, كأن أصحابها من السلفيين يحتاجون إلي حماية أ و رعاية مع أن دعاة المستقبل المتطلعين إلي حياة أفضل وأقوم هم, كما قال رسل, الذين يحتاجون أشد الحاجة لا حماية والرعاية والمناصرة في مجتمع مثل مجتمعنا الشرقي الذي نعرفه.
للدولة علي الشعب حق التوجيه والتقويم ود تجد الدولة أن الشعب, أو طائفة منه أسير لعادات ضارة, كتعاطي المخدرات مثلا, أو الإسراف في الطلاق والزواج, وهو لإلفه هذه العادات يحرص عليها ولا يجب أن يتحول عنها ونحن في هذه الحالة نجد الدولة ترعي مصلحته العليا فتوجه وتقوم وتزجر, بل تعاقب وفي مثل مجتمعنا الشرقي السلفي الذي نحس وطأته أعتقد أن علينا واجب المساندة والتأييد والمناصرة للجانب الذي يحتاج إلي ذلك وهذا الجانب هو حانب المستقبلين دعاة التجديد والاقتحام والجرأة إلي التجديد والاقتحام والجرأة ولئن كان برتراندرسل يري هذه المساندة واجبة في أوروبا أو نجلترا, فهي عندنا في الشرق ضرورة.
ولكن هناك كلمة لابد منها عن دعوة التجديد هذه التي نقصدها, والتي قصد إليها برتراندرسل دون شك, حين دعا إلي مساندتها وتصرفها.
دعوة التجديد هذه التي نقصدها, هي تلك التي تقوم علي الفهم والإدراك والأصالة والتعميق والإخلاص, لا تلك التي تقوم علي السطحية والجهالة والتقليد وحب التسلق والشهرة أو علي المسايرة والمتابعة والأنانية ودعودة التجديد التي تحارب العادات والتقاليد البالية التي أصبحت لا تناسب مجتمعنا, وتؤيد منها ما يكون صالحا لمسايرة روح التطور والنهوض.