يتشدق أقطاب الفن الهابط والمشجع علي الانحراف الأخلاقي بهذه العبارة, الجمهور عاوز كده, تبريرا لأعمالهم التي تعادي الأصالة المصرية والقيم المتفق عليها.. قبل أن أغادر إلي الخارج في مطلع عام 1973 وتغيبت ما يقرب من ثلاثين عاما, عدت لأفاجأ بأنني في بلد آخر غير مصر, إذ لم يكن التغيير مقصورا في الأزياء الغريبة التي انتشرت بصورة مفزعة وحلت محل الأزياء المصرية التي نشأنا في ظلها, بل امتد التغيير, للأسف, إلي العقل المصري, ولا أنسي فجيعتي وأنا أشاهد أما تشجع ابنها علي السرقة وتتسع ابتسامتها, فرحا وفخرا, بحصاد ما سرقه الابن, بينما كانت الأم في أفلام زمان, تنفر إذا قدم لها ابن أموالا مسروقة وهي تردد بحماس صادق وغضب ناضح حد الله ما بيني وبين مالك الحرام.. ولكن للأسف تغيرت المفاهيم وساد الاعتقاد بأن السرقة مهارة وشطارة, وأن التدليس فن, والرشوي حق والسخرية من ذوي الاحتياجات الخاصة, خفة ظل وذلك كله علي سبيل المثل وليس الحصر, وهو ما كان يصيبني باكتئاب مزعج أشعر معه أحيانا بأنني, قاب قوسين أو أدني من الاختناق, غير أنني وبكل صدق, لم أفقد الأمل في أن مصر التي صمدت في وجه كل المحن ستعود لترفع راية الحضارة الأصيلة التي جعلت منها, فجر الضمير.. وقد بدأت بشائر عودة الوعي مع ظهور فيلم الممر الذي استقبله الجمهور بحفاوة لم تكن متوقعة, وهو يحكي عن أحداث وقعت علي الجبهة إبان حرب الاستنزاف المجيدة, والتي قال عنها رجل مخابرات إسرائيلي: إنها أطول وأشرس وأوجع حرب خاضتها إسرائيل مع العرب.. وحاول رعاة الفن الهابط التقليل من نجاح الممر, بأنها صحوة عابرة, ستمضي سريعا إلي أن بدأ عرض مسلسل الاختيار الذي يتناول سيرة ومسيرة الشهيد البطل العقيد أحمد منسي.. لقد أجمع المشاهدون تقريبا علي متابعة المسلسل والإشادة به من حيث التمثيل والتأليف والإخراج وأعتقد أنه تصدر قائمة مسلسلات رمضان الحالي.. وفي اعتقادي أن الاختيار الذي أوضح بجلاء اختيار الشعب والذي هو باختصار الفن الهادف المحترم, الفن الذي لا يزيف الواقع بل ينقله حتي بسلبياته ولكنه لا يغفل الجوانب الإيجابية في شعب أثبت أصالته علي مر التاريخ وآخر تجلياته المعجزة ثورة الثلاثين من يونية, حيث تجلت الوحدة الوطنية المصرية بأوضح معانيها وبجذورها الممتدة علي مدي آلاف السنين.. اختيار الشعب كما شعرت به هو تخليد شهدائنا الذين ضحوا بأرواحهم دفاعا عن هذه الوحدة التي تؤرق الأعداء الذين لجأوا إلي أحط الأساليب لتمزيقها بشتي السبل والحيل, لأننا نعرف كما ذكر الرئيس السيسي قوتنا في وحدتنا.. يتوجب إذن اطلاع الأجيال الحالية والقادمة, علي سير أبطالنا الشهداء, ومنهم الفريق أول ورئيس الأركان المصري عبدالمنعم رياض الذي استشهد في الخطوط الأولي علي الجبهة عام 69 وشاركت في جنازته التي ضمت بدون أي ترتيب ما يقرب من مليوني مواطن, وكذلك الشهيد إبراهيم الرفاعي صاحب السيرة العطرة وأحد رموز الفداء النبيل و غير هذين البطلين الكثير وهو ما سيعيد بقوة الشعور بالانتماء إلي الوطن بعد الحملة المسعورة التي شنها ولا يزال أهل الشر والذين تباروا في الحط من قيمة الوطن بوقاحة لم يسبق لها مثيل.. المنسي الذي لن ننساه أبدا, أيقظ ضمن كل الجمال الذي أيقظه وعينا لأهمية التعريف بمسيرات أبطالنا الآخرين وضرورة تعريف الأجيال بتضحياتهم وبإعلائهم كقدوة ومثل أعلي, بدلا من النماذج الرديئة التي تزدحم بها أفلامنا ومسلسلاتنا.. علينا أن ننتزع أسماء المحتلين من شوارعنا وإطلاق أسماء شهدائنا وليتنا ندرس سيرة شهدائنا في كافة مدارس الجمهورية وهذا هو ما يريده الجمهور بالفعل واسألوا الاختيار.
[email protected]