عرف الإنسان التعصب منذ وجوده في العالم, وكان لهذا التعصب نتائج خطيرة, عادت بالإنسان إلي الحيوانية التي هي ضد الإنسانية الجميلة التي تحترم الإنسان لأنه إنسان, وخليفة الله العظيم السرمدي, أحب آدم ابنه هابيل أكثر من قابيل, ابنه أيضا, فما كان من الأخير إلا أن قتل أخاه هابيل, وكانت أول جريمة قتل عرفها الإنسان.
حكم الإمبراطور كاليجولا روما أربع سنوات من سنة 37 إلي سنة 41م, وكانت روما تحكم العالم كله, بدأ حكمه بحكمة وحب للشعب, وما هي إلا ثلاثة أشهر حتي أسفر عن وجهه القبيح وحقيقته المتوحشة وأنانيته التي لا تقبل الآخر, وحبه للدماء والقتل, كان يكره الصلع وفي قرار غريب أمر بتقديم جميع الصلع من المساجين طعاما للوحوش التي كان يربيها, ولأنه يعتبر نفسه فوق الجميع أرغم أعضاء مجلس الشيوخ علي أن يقبلوا قدميه, ثم يشكروه لأنه سمح لهم بذلك, منتهي الاستهتار بالآخر وعدم احترامه!.
من خلال قراءتنا للتاريخ نتعرف علي أول فيلسوفة في العالم هيباتيا الفيلسوفة السكندرية ابنة الفيلسوف اليوناني, ثيون, مدير مكتبة الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي 391م, كانت متفوقة علي كل فلاسفة عصرها, تخصصت في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة, كتبت تفسيرات وشروحا لكتاب القوانين الفلكية لبطليموس, ونقحت شروح أبيها في علم الفلك, وهي أول امرأة في التاريخ يلمع اسمها كفيلسوفة وعالمة فلك ورياضيات, وكان طلاب العلم يأتون إلي مكتبة الإسكندرية من كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية لعلمها الغزير وشرحها العبقري, كما كانت امرأة جميلة أيضا, كانت, هيباتيا, تتحدث في محاضراتها عن القضايا الملحة والمثارة مثل دوران الأرض حول نفسها, والشمس كمركز للكون, وغير ذلك من الظواهر الطبيعية, وكانت الإسكندرية تموج بالمتعصبين من أتباع الدين المسيحي الجديد ضد الدين الوثني القديم, وهذا شأن كل جديد, وكانت هيباتيا تحاول في محاضراتها أن تهدئ من هذا الغليان بين اتباع الدين الجديد والقديم وتقول لطلبتها المختلفين: إن الشجار للعبيد لا للمتعلمين. لكن التعصب ينتشر ويغذيه أسقف الكنيسة, سيريل, الذي ينادي بقتل اليهود والوثنيين المقيمين في الإسكندرية, بل وقتل الفيلسوفة الساحرة والعالمة هيباتيا نفسها. يسمع المتطرفون هذه الدعوة الهمجية فيهرولون إلي مكتبة الإسكندرية وفي ساحة المكتبة يحطمون ويحرقون كل شيء الكتب والمخطوطات والتماثيل وأحدث الاكتشافات العلمية, ليت الأمر ينتهي بذلك, لكن الرعاع الهمجيين يبحثون عن (هيباتيا) الفيلسوفة العالمة, ويجرونها ويجردونها من ملابسها, ورجموها وسلخوها حية في كنيسة قيصرون, ثم سحلوها عارية في صحراء النطرون بالقرب من المكتبة, ثم قام أحدهم بفصل رأسها عن جسدها, وانهال بقيتهم في بتر معظم أعضائها, وختموا جريمتهم بإشعال النار فيما تبقي من جسدها…!
هكذا أدي التعصب الأعمي إلي حرق مكتبة الإسكندرية وقتل أول فيلسوفة وعالمة تعيش في الإسكندرية وتدعو إلي الحب واحترام الآخر وإعمال العلم في حياتنا بدلا من الجهل. من حسن الطالع أن تأمر القيادة السياسية بوضع تمثال لهيباتيا شهيدة التطرف والتعصب في أحد ميادين العاصمة الإدارية الجديدة بمصر تعبيرا عن العصر الجديد للحرية والإنسانية. وهل ننسي مأساة أبو الفلسفة سقراط ومحاكمته وإعدامه باحتساء كأس السم نتيجة لتعاليمه ومبادئه الأخلاقية الحكيمة عام 399 ق.م, ثم ندم شعب أثينا بعد ذلك علي جريمتهم في حقه وهو أحكم إنسان فيها؟!
وهل ننسي أيضا الراهب الإيطالي(جوردانو برونو) 1548 ـ 1600م هذا العالم والمفكر الشجاع الذي أعلن أن الأرض تدور حول نفسها كل 24 ساعة فيكون الليل والنهار, وتدور حول الشمس كل عام فتكون الفصول الأربعة, وكانت له آراء أخري مخالفة للكنيسة مما دفعها إلي اضطهاده فأصبح طريدا في كل بلاد أوروبا, وأخيرآ ولإيمانه بآرائه, وشجاعته في عدم التخلي عنها حكمت عليه محاكم التفتيش بالسجن ست سنوات وأخيرا بإحراقه حيا, فتقدم إلي النار بثقة وعين لا تدمع ويد لا ترتجف قائلا: (ليس للحكومة الحق في أن تعين للناس تفكيرهم, وليس لها أن تعاقب بالسيف الذين ينشقون عن عقائدها الشائعة) وحرق برونو 1600م وبعد ثلاثمائة سنة, أي في عام 1900, أقاموا له تمثالآ في نفس المكان الذي أحرق فيها تكريما له وتذكارا لشجاعته وصدقه مع نفسه.
كان عالمنا الإيطالي العظيم, جالليو جاليلي, 1564 ـ 1642م, أحرص علي حياته من غيره, واستفاد من تجربة (برونو), فلما وقف أمام محاكم التفتيش لم يعلن عن اكتشافه وقال بموافقته علي تعاليم الكنيسة وعلمها الذي يعرف أنه خطأ حتي ينجو من العقاب, لكنه أثناء خروجه من المحاكمة قال لصديقه. لكن الأرض هي التي تدور حول نفسها.. وحكمت المحكمة عليه 1633م بالسجن ثلاث سنوات وأن يتلو المزامير السبعة مرة كل أسبوع, وأن ينكر ماجاء في كتابه 1630م عن الفلك والذي اعترف فيه بأن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس. وبهذا ضحك جالليو علي محاكم التفتيش ورجال الدين لأن الكتاب كان قد نشر وفيه تلك الحقائق.
يظل التعصب سرطانا ينخر في عظم الإنسانية فيوقف تقدمها ويلغي إنسانيتها.
المفكر الساخر الفرنسي, فولتير, 1694 ـ 1778, عاش حياته من أجل إثبات حق كل إنسان في الحرية الفكرسة ولمكافحة المتعصبين الجهلة الأغبياء, وحارب الكنيسة الكاثوليكية وسلطانها الدموي مع أنه شديد الإيمان بالله, قال في كتابه, قبو التعصب: إن من يتلقن دينه بلا فحص يكون كالثور يتقبل النير بلا معارضة. ويقول في كتابه, التسامح:
قد تسألني.. هل يجب علي أن أعتبر التركي أو الصيني أو اليهودي أخا لي؟ أقول: أجل أليس كلنا أبناء أب واحد وخلائق رب واحد؟تاريخ البشرية حافل بصور حزينة سوداء للتعصب وقتل الأبرياء وتدمير الحضارات, لكنه حافل أيضا بالمفكرين الذين يدافعون عن الإنسان والحب والسلام حتي تبقي الإنسانية السعيدة وتحترم الإنسان لأنه إنسان, وهل ننسي غاندي قديس القرن العشرين, الذي قتل عام 1948 لأنه يدافع عن الملمين وهو الهندوسي, ونلسون مانديلا 1916ـ 2013 الذي قضي 27 عاما في السجن لأنه يدافع عن السود أبناء بلاده ضد المعتدي العنصري الأبيض, وقد توج كفاحه ليكون أول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا.
يطل من ساحة التفرقة العنصرية وجه قبيح لهتلر الذي أشعل الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945 والتي استشهد فيها نحو خمسة ملايين إنسان بريء لمجرد إيمان هتلر بأن الجنس الآري أفضل من غيره.. إنه جنون التعصب.
التعصب ليس دينا وحسب, بل هو موجود في كل مناحي حياتنا في الدين والرياضة, والجنس بين الرجل والمرأة, واللون واللغة, وقد يكون للأسف, بين الأبناء أيضا. ويجب أن يهب وينتفض العالم وكل المجتمعات للقضاء علي هذا المرض اللعين الذي يؤدي إلي الدمار والقتل والردة الحضارية. وفي مجتمعنا, مصر أم الدنيا, التي قدمت الحضارة والأخلاق والعلم والفن إلي كل العالم يجب أن تعمل كل المؤسسات: وزارة التربية والتعليم, الأسرة, المسجد والكنيسة, وزارة الشباب , المجتمع المدني, الإعلام بكل فروعه, الفنون بكل ألونها, الموسيقي والغناء والسينما والمسرح, والفن التشكيلي, يجب أن تكون قضية الآخر واحترامه هي رسالتها وقضيتها الحقيقية التي تشغلها حتي يطل علينا عصر النور, نور الحرية والحب بين الجميع وبالتالي العمل الجاد من أجل المجتمع وتقدمه… عالجوا المرضي بالتعصب, عالجوهم نفسيا وجسميا, وعرفوهم أنه لا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي, وأن الله هو رب الجميع, وطبقوا القانون علي من يخرج علي سلام المجتمع ويؤذي الآخر المختلف معه دينيا ورياضيا وجنسيا ولغة ولونا وغير ذلك.
وهل أطلب من وزارة التربية والتعليم تدريس مادة الفلسفة, لتلاميذ الصفين الابتدائي والإعدادي, لأن مبادئها الأولي احترام الإنسان والآخر والرأي المخالف, حتي يعرف الطالب أنه ليس وحده في هذا العالم, وأن الاختلاف نعمة, وأن الله, الخالق العظيم, خلق العالم هكذا وهذه إرادته.