لاشك أن أستاذنا الراحل الكبير أنطون سيدهم, كان أحد المثقفين المصريين, من أصحاب الرؤية الثاقبة, بما امتلك من قدرة علي النقد البناء, والتعايش مع قضايا مجتمعه بإيجابية, مقتحما مشاكل عديدة تنوعت أبوابها, من بينها القضايا التربوية والتعليمية, باعتبار أن التعليم قضية أمن قومي لمصر, مصر الوطن الذي عشقه.. معبرا عن ذلك بإصدار جريدة أطلق عليها وطني.
وبداية لصياغة رؤيتنا التحليلية, علينا أن نوضح الفترة التي وجد فيها راحلنا الكبير, لما لها من أهمية خاصة في تاريخ الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية, مرورا بالحرب العالمية الأولي والثانية, وحروب فلسطين, كما كانت مرحلة الصراع مع الاستعمار الأجنبي, والدفاع عن القضايا الوطنية, ثم فترة ثورة 23 يوليو 1952, والحروب الثلاثة التي اجتازتها مصر, والتي كانت آخرها حرب أكتوبر المجيدة 1973,
أما العوامل التربوية في نشأة (أنطون سيدهم), فقد نشأ في ريف مصر, بطنطا في 3 مارس 1915, وتلقي تعليمه الأولي والثانوي بين مدينتي الزقازيق والإسكندرية, ثم تخرج من كلية التجارة جامعة فؤاد الأول بالقاهرة, ثم عمل محاسبا قانونيا, حيث أسس مع زميله المرحوم الأستاذ عزمي رزق الله في عام 1939, مكتبا للمحاسبة والمراجعة, والجدير بالذكر أن هذا المكتب كان طليعة المكاتب المصرية, التي كسرت احتكار الإنجليز, والأجانب, لممارسة هذه المهنة في مصر, وعلي أثر حركة طرد الأجانب في أعقاب تأميم القناة وحرب 1956, قام مع رفقائه بشراء أسهم شركة الكاتب المصري من مؤسسيها الأصليين الأجانب.
أولا: نشاطه التربوي مع الشباب بجمعيات الشبان المسيحية
فلقد آمن أنطون سيدهم بقيمة وأهمية تنشئة النشء والشباب, من خلال الأصول التربوية السليمة, وتوفير المناخ الصحي المناسب لهم, مما دفعه للمشاركة والعضوية العاملة في الكثير من الجمعيات الاجتماعية والثقافية والتربوية الهادفة.. وأهمها جمعية الشبان المسيحية المنتشرة عالميا في أكثر من 311 دولة,وتخدم أكثر من 53 مليون عضوا, وتهدف إلي تنمية الروح, والجسد, والعقل.
وتتميز هذه الجمعية بوطنيتها كنموذج يقتدي بها, فالجمعية مسيحية, ولكن ليست قاصرة علي الشباب المسيحي, بل لجميع شبان الوطن لذلك فاسمها جمعية (الشبان) المسيحية, وليست الشبان المسيحيين؟!! لذلك كان لراحلنا دورا فعالا وأصبح أحد رواد الحركة العالمية, لانها تضم شبان مصر كنسيج واحد, تحت رعاية وإشراف قيادات تربوية واجتماعية متخصصة ومدربة علي فنون الإعداد التربوي في مناخ مناسب للشباب وتلبية احتياجاتهم, وغرس فيهم أغلي القيم التربوية والروحية, للحفاظ عل بناء شخصياتهم المصرية وتمكينهم من مواجهة التحديات المستقبلية
ثانيا: قضايا تربوية حول الوحدة الوطنية في فكره وكتاباته
من خلال تحليل كتاباته, نجد أن النهج التربوي الذي لا يقف عند حد طرح مظاهر الأمراض الاجتماعية, بل يسعي إلي وضع رؤية أو اقتراح لتعديل السلوك.. قد احتل صدارة التشخيص في تناوله لقضايا المجتمع, ومن بينها قضية الوحدة الوطنية, وبعين الباحث المدقق راح يشخص الداء بالتوثيق, فأشار إلي أهمية مراجعة موضوعات بالكتب المدرسية والعمل علي حذف ما يثير إلي كراهية الآخر بين التلاميذ, مما قد يفرخ أجيالا معبأة بعوامل الفتنة, وطالب الرجل بلباقته وجاعت بتقنية المناهج الدراسية من كل ما يخص الكراهية, وطالب وقتئذ وزير التربية والتعليم المصري.. والجدير بالذكر أنه بعد رحيله بسنوات تأتي مبادرة بيت العائلة المصرية من الإمام الأكبر, ومباركة من البابا شنودة الثالث نيح الله نفسه عام 2011.. واستكمالا من البابا تواضروس الثاني أطال الله عمره, الجدية في الحفاظ علي النسيج الوطني, ومن خلال لجنة التعليم والبحث العلمي التي أشرف برئاستها مع الزميلة د.نهال النجار أستاذة الأديان المقارنة بالجامعة الأمريكية, حيث وجهنا اللجنة بتنقية المقررات الدراسية مما يسئ للآخر, مع وضع آلية لتكوين جيل يتربي علي الوحدة الوطنية بل جيل يحرس ويتمسك بالحفاظ علي النسيج الوطني وحمايته, من خلال تكوين فرق لأصدقاء بيت العائلة في جميع مدارس مصر بمرحلة التعليم قبل الجامعي بقرار من وزير التربية والتعليم, وتدريب مدرسي التربية الدينية بالوزارة, وإعلان مسابقة للتربية المسيحية أسوة بمسابقة حفظ القرآن الكريم.. لعدم التمييز بين الطلاب.. وهكذا نساير الرؤية المستقبلية لأستاذنا الراحل أنطون سيدهم نحو الحفاظ علي نسيجنا الوطني الذي أكد في عديد من مقالاته عليها.
ثالثا: قضايا التعليم في محاور مقالاته:
وبتحليل مضمون مقالاته عن إصلاح التعليم نجدها تنحصر حول:
* الاهتمام بالمباني المدرسية, وإعادة توزيع بناء المدارس, وتجهيزها المعامل والمكتبات.
* تقليل كثافة الفصول الدراسية, والحد من الفترات الدراسية المتعددة.
* تحديث المناهج الدراسية وتطويرها بما يتناسب مع الاتجاهات المعاصرة.
* إصلاح أحوال المعلمين, وإعدادهم, وتدريبهم.
* ربط التعليم باحتياجات المجتمع, وخطط التنمية.
* الاهتمام بالتخطيط التربوي الشامل.
* عدم التوسع في التعليم الكمي, علي حساب التعليم الكيفي, خاصة في مرحلة التعليم الجامعي.
* قصر التعليم المجاني علي مرحلة التعليم قبل الجامعي فقط.
* دعم الجهود الذاتية للأفراد والمؤسسات, والهيئات بالقيام بدورها في إنشاء مدارس حديثة ومتطورة, لسد احتياجات البلاد, وتطوير وتحديث التعليم لمسايرة الاتجاهات المعاصرة في تحديث وتحسين العملية التعليمية.
* إيمانه بأهمية البحث العلمي عند التطوير والتحديث, ودراسة المشكلات التي تعوق العملية التعليمية في تحقيق أهدافها, والتي تشكل أحد الأهداف الأسباب الجوهرية لضعف فعاليتها, حيث عكست العديد من مقالاته علي أهمية جودة التعليم, وتطوره.
وأري, بعد مرور هذه السنوات علي رحيل أحد أعلام مصر, المهمومين بقضايا الوطن وأهمها التعليم, أنه ترك عملاقا له منهجه العلمي في تناول قضايا وطنه ووطني المهندس يوسف سيدهم, الذي استطاع بمهارة, واقتدار, ولا أجد ما أختم به كلماتي, إلا استعارة كلمات الصديق المهندس يوسف سيدهم التي كتبها يوم رحيل والده, تحت عنوان ”وطني تبكي أباها الروحي”:
يامن أحب مصر وطنه فشغل بإعلاء شأنها ورفع اسمها.. أبكيك بدمعي وقلبي.. يامن تسلح قلمه بأمانة الكلمة, وشجاعة الحق في احترام وشموخ, من أجل أن تظل مصرنا عزيزة قوية رافعة الرأس.. أتعزي بسيرتك, وأصالتك, وافتخر بك, واذكرك دوما.