تشكل الكلمات وعينا وتفكيرنا، فهى طريقنا للعالم وللآخرين ولأنفسنا، وعندما نعجز عن التعبير، فهذا معناه أن رصيدنا من الكلمات لا يكفى لكى نعبر. الكلمات هى روح الوعى، فنعيشها ونعيش بها وعادة لا نسأل من أين جاءت وما هو منشأها، وكأنهابلا أصل وبلا تاريخ. وفى هذا المقال أستعرض نصا شيقا للباحث والأديب والدبلوماسى العراقى الدكتور عبد الحق فاضل (1911-1992) بعنوان “ألفاظ المحبة والتعاطف”، تم نشره فى مجلة المورد العراقية عام1975. وفى هذا النص يقول عبد الحق فاضل: “كل لفظة لغوية تجرى على ألسنتنا لها قصتها التى تحكيها لنا. بديهى أن قصص الألفاظ تختلف من بعض المناحى عن قصص الناس. لكنها تشبه أيضا من مناحى أخرى قصص الناس. فاللفظة اللغوية كائن حى مثل الإنسان، متطورة مثله أيضا، ولها ماض بعيد، بعيد، أبعد من ماضى الإنسان .. كيف نشأت هذه اللفظة؟ وكيف تقلبت وتنقلت فى المذكرات أو السير الذاتية الشائقة”. وفى رحلته للتنقيب عن أصل كلمات المحبة والتعاطف، تأخذنا الرحلة إلى عالم الحيوان والنبات وعمق الجسد.
ومن عالم الحيوان نبدأ بكلمة الحنُوّ من (الحنان والحنين)، يقول الكاتب أن أصل هذه الكلمة من (الأنين) و(الهنين). والأنين لفظة صوتية تحاكى صوت أنين المريض، أما الأنين بالمعنى العاطفى والذى أنتج لفظة (الحنين) فقد جاء من “أنين” الناقة (أنثى الجمل) حين تحن وتعطف على وليدها. وكلمة “تحنو” هى أيضا من الإنحناء والإنثناء، وهذا أيضا يحيلنا إلى الناقة عندما تلوى عنقها الطويل على وليدها وهو يرضع فتشمه وتلحسه بحنان ورقة. ويواصل عبد الحق فاضل حديثه عن الناقة، ويحدثنا عن أصل كلمة “العطف” فيقول: “مازلنا مع عمتنا الناقة، قالوا عطفت على ولدها: حنت هليه ودر لبنها”. والعطف يعنى كذلك الانحناء واللى والميل. فنحن نقول منعطف الطريق أو الوادى.
ونبقى مع الناقة فى كلمة أخرى وهى “الرام”، فنحن نقول “الأم الرؤوم” وهو معنى ارتبط عند العرب بالناقة، فقد قالوا “رأمت ولدها” أى عطفت عليه. ومن الرأم جاءت كلمة أخرى وهى الرأفة، فكما نقول الرؤوم نقول الرؤوف. ويشار كذلك إلى أن “الرأم” هو صوت الناقة أو الظبية عندما تعطف على صغيرها. ومن الرأم تأتى كلمة “الرحمة”، فرأمته أو ترأمت عليه تعنى رحمته وحننت عليه. والرحمة معجميا تعنى رقة القلب وانعطاف يقتضى المغفرة والاحسان. وتمتد كلمة الرحمة إلى الجسد، فالأم ترحم وليدها قبل أن تلده أى وهو جنين فى بطنها، فى رحمها، ثم صارت كلمة الرحم تعنى القرابة، حتى بين أولئك الذين ولدوا من أرحام مختلفة. وبالحديث عن الجسد، نستحضر لفظة أخرى من ألفاظ المحبة وهى “الشغف”، والتى تأتى من الشَغاف أى غلاف القلب، فالقلبفى الوعى العام هو بيت العواطف. ومما يدل على أن معنى الشغف نشأ من هذا الغشاء الفؤادى قولهم شغفه الحب، أى وصل شغاف قلبه.
ومن عالم الحيوان كذلك، تأتى لفظة أخرى وهى “الرعاية”، والتى بدأت من رعى الماشية، وعندما انتقل المعنى إلى عالم البشر ارتقى إلى مرتبة الحنان والصيانة والاحترام، وقد أصبح له كذلك معنى سياسى أى “الرعية” أو رعايا الدولة. ويتعقب عبد الحق فاضل كلمة “الألُفة” فينطلق من كلمة “العَلف” أى علف الحيوان. فالماشية عندما يتم تربيتها فإنها تتغذى على العلف أى يتم علفها، وبالتربية تتحول من الحالة الوحشية إلى الحالة الأليفة”. وهنا يتضح الارتباط بين “الأليف” و”الألوف” من ناحية، و”العليف” أو “المعلوف” من ناحية أخرى.
ومن عالم النبات، تأتى الكلمة الأشهر والأكثر استخداما وهى “الحُب” (بضم الحاء)، والمستمدة من “الحَب” (بفتح الحاء) والتى تعنى القمح. ويجرى استخدامها عندما نقول حَب فلان أو فلانة أى أعطاه أو أعطاها الحَب والطعام، وكذلك الرغبة والود. وعندما يتحول الحُب إلى غرام يكون العذاب وتكون المشقة، وهكذا فإن كلمة الغرام ترتبط بمعان سلبية عن الجرم والغرامة والتغريم. فالغُرم هو ما يلزم أداؤه من مال على سبيل الغرامة. وهكذا بات الغرام مرتبة من الحُب تعنى العذاب والهلاك، أى الحب المعذب للقلب. ويحدثنا الكاتب كذلك “التُوله”، و”الهيام” و”الهوى”، وهى أيضا درجات قاسية من الحب، وكلها يشير إلى ذهاب العقل، فالوله يعنى الحيرة، والهُيام يعنى السير على غير هدى، أما الهوى فهو السقوط، ومنه “الهوس” وهو شكل من أشكال الجنون.
وهكذا فرغم أن الكلمات هى إبداع بشرى، إلا أن معانيها تأتى من الكون الرحب الذى نحيا فيه، فالناقة لا تعرف كلمات الحنان والعطف، ولكنها علمت البشر صناعة الكلمات وشحنها بالمعنى. وحبات القمح أعطتنا معنى الحُب، وتبادل الوعى والجسد الإنسانى ألفاظ الشغف والرحمة. إنها الكلمات التى هى تاريخ وعلاقات، وكما قال الدكتور عبد الحق فاضل: “كل لفظة لغوية تجرى على ألسنتنا لها قصتها التى تحكيها لنا”.