بين البارحة والغد، تنمو جماجم القلق في رؤوسنا، وفيما ينحرف مؤشر العمر نحو الضعف والشيخوخة، تتضخم تلك الجُمجمة في رأس كل منا، وكالمغناطيس تجتذب تفاصيل كل المحن المُمكنة، إذا ما ولى العمر، ونظرنا في صندوق ذخائر القوة، لنجده خاوياً إلا من الضعف، والاحتياج، وكلما استند الفرد إلى صندوقه، يستطيع ان يزن مدى قوته، ويقيس ما العوامل القادرة على إزاحته، ودرجة ثباته، وكلما زاد الثبات كبر الأمان، هكذا تفعل نظم التأمين الاجتماعي بنا؛ فيحرص الجميع على التسجيل فيها، لذلك سٌميت نظم التأمينات الاجتماعية، بشبكات الأمان الاجتماعي، لأنها تمنح أماناً في أزمنة الخوف من تبعات الهشاشة المادية والصحية، ويتم تنظيمها مع الجهات والافراد.
لكنها لا تشمل الكنيسة كجهة عمل، وكانت تشمل الآباء الكهنة ـ باعتبارهم اصحاب عمل!! حتى صدر مؤخراً قرار رقم 148 لسنة 2019 على أن يصبح سارياً بأثر رجعي منذ بداية العام الحالي 2020. لكن القرار لم يصحح وضعية الكاهن من صاحب عمل إلى عامل. والذي لا يعرفه كثيرين أنه جاء استدراكاً لإسقاط المادة الخاصة بالتأمين على الكهنة من قانون التأمينات الجديد. وينص القرار على أن “تضاف إلى الفئات التى يسرى عليها أحكام قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم 148 لسنة2019 فى البند الثاني من المادة الثانية، الفئات المنصوص عليها فى البند الآتى (القساوسة والشمامسة المكرسون)” المقصود بهم “المتفرغين للعمل داخل الكنيسة-والمعينين من قبل الكنائس المصرية” وهو ما لاقي ترحيباً واسعاً بين هذه الفئات، والتي تصور البعض انها بلا مظلة حماية، في حين ان الواقع هو أن وزارة التضامن استدركت خطأ كان قد وقع بسقوط هذه الفئة، من قائمة المنتفعين بقانون التأمينات والمعاشات الجديد، إذ كانت المادة الثالثة من قانون التأمين الاجتماعي على أصحاب الأعمال ومن في حكمهم، والذي كان يحمل رقم 108 لسنة 1976، يضم في مادته الثالثة “القساوسة والشمامسة المكرسون”، قبل أن يخلو قانون التأمينات والمعاشات رقم 148 لسنة 2019 من تلك الفئة فيمن يسري عليهم التأمينات والمعاشات.
بدأت الحكومة تطبيق القانون الجديد في مطلع العام الجاري، لكن التفت البعض من المتابعين لسقوط المادة من القانون الجديد، واللافت أن المادة سقطت رغم المناقشة المجتمعية التي مرت بها مراحل إصدار القانون ورغم مروره على كل أعضاء مجلس الشعب!!!
وتم عرض الأمر على وزيرة التضامن، التي – مشكورة- أصدرت قراراً بإعادة القساوسة والشمامسة المكرسون للانتفاع بأحكام التأمينات والمعاشات. وقررت الوزيرة، إدراج تلك الفئة ضمن بند “أصحاب الأعمال ومن في حكمهم”!!. وهو ما كان بيد الوزيرة تغييره في قرارها، لتصحيح وضعاً كان مغلوطاً، لكن ذلك لم يحدث، ولا أعرف كيف مر القانون بكل مراحله دون ملاحظة ذلك، ربما لغياب المناقشة المجتمعية الحقيقية حول هذه المادة، والتي ربما لم يجد المُشرع مخرجاً لها، أو لغياب مشورة أصحاب المصلحة.
وفيما يخص الكهنة فإن القرار كان مُفعلاً منذ زمن عليهم، ويُحسب الكاهن على فئة “موثق”، أي صاحب عمل ويسدد الاشتراك شهرياً حسب الشريحة التى يريدها، ويحصل على معاش بعد سن 65 سنة.
وهذا لا يعني العزل من الخدمة وإنما الحصول على المعاش، باعتباره “صاحب عمل”، وهنا تكمن الأزمة الحقيقية. فالكاهن سوف يدفع حصته وحصة الكنيسة لأن القانون اعتبره هو صاحب العمل ومالك الكنيسة!! وهو ما يجافي المنطق فى عرضه وتطبيقه، فلا يوجد كاهن صاحب ومالك منشأة «كنيسة» أو مبنى خدمات، لأن الكهنة يعملون داخل الكنائس برواتب، والأزمة تتعلق بنص القرار الذي اصدرته وزيرة التضامن نيفين القباج، والذي يعيدنا لذات الإشكالية، التي برزت حتى حينما تقدم بعض الكهنة الذين كان لديهم بطاقة تأمين قبل دخولهم الكهنوت، لنقل التأمينات إلى عملهم الجديد باعتبارهم كهنة، فانتقلوا من “عاملين” إلى “أصحاب عمل
كما إنه قبل صدور القرار كان للكاهن حرية الاختيار فى اللجوء إلى التضامن للتأمين على نفسه والحصول على معاش من عدمه، أما بعد هذا القرار أصبح التأمين إلزامياً، وهو ما أثار – على جانب آخر من اللغط – مخاوف لدى البعض حول إمكانية ان يكون لهيئة التأمينات الإجتماعية أحقية التفتيش على السجلات المالية للكنائس، لإلزامها بتعييين أفراد أو ما خلاف ذلك، بينما لا يدرك البعض أن قضية الحسابات المالية الكنسية تخضع لهيئة الأوقاف القبطية مثل الأزهر وليس للتأمينات الاجتماعية.
فيما يخص الاملاك القبطية فقط وليست حسابات الكنائس او ما يخص ادارياتها او ملفات العاملين فيها الذين يتبعون فعليا مؤسسة الكنيسة المحسوبة مؤسسة روحية لا يمكن ان تتبع الدولة ولا يمكن أن يخضع موظفيها لذات اللوائح فيما يخص التعيين والعزل لان الأخير يخضع للوائح تتعلق بالأمور الروحية والعقائدية للكنيسة والتي يتعذر معها اى تدخل آخر، وهو ما يضعنا أمام إشكالية أخرى.
اللافت أيضا هو ما طفا على السطح تزامناً مع صدور القرار، من ترديد البعض وتعميمهم لعدم حاجة الكهنة إلى الدخول تحت مظلة شبكات الأمان الاجتماعي، فمن الشائع عن طريق الخطأ والمبالغة أن أفراد الإكليروس بشكل عام أثرياء.
وكما يقول الباحث اسحق ابراهيم: قد يعتقد البعض أن جميع القساوسة أغنياء ولا يحتاجون، وهو اعتقاد خاطيء، نظام المرتبات لرجال الدين المسيحي غير موحد وخاضع لكل إيبارشية مكانيًا حسب مواردها (المئات في القرى في بحري والصعيد يعيشون على الكفاف). كما أن جزءًا كبيرًا من المرتبات يرد من التبرعات”.
والمحزن أن البعض لا يتلفت إلى أن بند التبرعات، هو بند غير مستقر فى أية جهة تعتمد فى إنفاقها على التبرعات الواردة، وبالتالي تعتمد جودة الرواتب على قيمة التبرعات، التي بالأصل تعتمد على الطبيعة المكانية للكنيسة أو الإيبارشية. فهل يمكن أن يقتات المستقبل من حكايات القهر وأوجاع الماضي؟ ولا حتى من غناه أو عوزه؟ الإجابة قطعاً لا، لأن ضمان العيش الكريم حال التقدم فى العمر، لا يمكن إلا عبر نظام أمان اجتماعي منضبط.