يقول داود النبي: إنما بنو آدم أنسام, إنما بنو البشر أوهام. إذا وضعوا كلهم في الميزان كانوا في أخف من الدخان (مزمور61:10).
منذ فبراير الماضي وحتي يومنا هذا يمر العالم كله بمرحلة حرجة وحاسمة وقادرة علي تغيير سلوك البشر وأولوياتهم بسبب فيروس ضعيف يدعي كورونا, ومما لاشك فيه أننا سنطلق علي المستقبل: فترة ما قبل كورونا وفترة ما بعدها, هنا نطرح بعض التساؤلات التي تدور في مخيلتنا دون الإفصاح عنها: هل من الممكن أن يقف الله بعيدا عنا في ظل هذه الظروف التي نرغب في وجوده بجانبنا لينقذنا؟, لماذا تأتي استجابة الله متأخرة لإغاثتنا, لماذا يختلف التقويم اليومي عند الله عن تقويمنا الذي نحدده لنا؟, لماذا يصلنا تدخل الله بعد فترة طويلة لانتظارنا؟
بداية يجب أن نعي تماما بأن لا علاقة بعقاب الله وغضبه, بفيروس كورونا كما يدعي البعض, مما لاشك فيه أن كل ما نمر به هو لخيرنا الأعظم الذي لا ندركه الآن في هذه الحياة, كما يجب أن نؤمن بأن عين الله ساهرة علينا جميعا ويهتم بكل أمورنا, وسنري فيما بعد ما هو الأفضل لحياتنا وللعالم أجمع, ويوجد بين الإيمان والرؤية فيما بعد, الرجاء الذي يجعلنا نتقبل هذه اللحظات الصعبة لنخرج منها بأمان.
يحكي أن هناك أربع شمعات كانت مشتعلة في هدوء تام حتي أننا نستطيع أن نستمع لحديثهن, فقالت الأولي: أنا السلام! لكن لا أحدا يرغب في وجودي, لذلك يجب علي أن أنطفأ. وبالفعل بدأت تنطفئ ويختفي نورها تدريجيا. ثم قالت الثانية: أنا الإيمان! ولكن للأسف يعتقد العالم بأن لا أهمية لوجودي, إذا.. لماذا استمر في بقائي مشتعلة, وعندما أنهت حديثها هب عليها نسيم وانطفأت. ثم أخذت الشمعة الثالثة في الحديث قائلة: أنا الحب! ولكن لا أملك القدرة علي البقاء مشتعلة, فالناس يطرحونني جانبا ولا يدركون أهمية وجودي, ولا يعيشون في محبة, وبالفعل انطفأت في صمت تام. ثم دخل طفل ورأي الثلاث شمعات منطفئة, فبدأت عيناه تذرفان الدموع وقال: لماذا توقفتن عن الاشتعال؟ يجب عليكن أن تبقين مضيئات حتي النهاية. ثم همست الشمعة الرابعة: لا تخف.. مادامت شعلتي متقدة, لأنك تستطيع بها أن تضيء الشمعات الأخريات مرة ثانية, فأنا الرجاء والأمل, فابتسم الطفل آخذا شمعة الأمل لإشعال الأخريات. لذلك يجب علينا ألا نطفئ الأمل الموجود بداخلنا مهما كانت الظروف التي نمر بها. ونستطيع بهذا الأمل تغيير حياتنا للأفضل بعد الانتصار علي هذا الفيروس.
هل نستطيع أن نتخيل بأن شيئا مثله استطاع أن يوحد العالم كله مظهرا له بأن لا فرق بين ملك ومواطن بسيط, بين غني وفقير, بين قوي وضعيف, بين مؤمن وغير مؤمن, كما أن هذا الفيروس أستطاع أن يكشف معادن الشعوب والأشخاص, فهناك الذين قدموا خدمات لغيرهم, وهناك الذين يفكرون في ذاتهم فقط, حتي أن البعض سمح لذاته بسلب شحن مساعدات لدول أخري.
إذا استطاع هذا الفيروس الضعيف أن يعظ العالم بأن حياتنا هشة وضعيفة, ومهما تقدمنا في العلوم والتكنولوجيا, سنظل محدودي القوة والقدرة, كما أننا بدأنا ندرك منذ هذه اللحظة بأن اتحادنا معا في الخير هو سلاحنا الحقيقي للتغلب علي هذا المرض. تعيش البشرية بأسرها هذا التحدي والحظر والوباء, وتوقف كل شيء علي الصعيد الجوي والبحري والبري, واكتشفنا بأن قيمة الإنسان تكمن في رسالته الحقيقية, فالآن شعر الجميع بالدور البطولي للأطباء والممرضين, لذلك ننحني احتراما وتقديرا أمام هؤلاء وجميع الذين ضحوا بحياتهم نتيجة خدمتهم للمرضي, وهناك العديد من الأمثلة لأبطال في مختلف المجالات.
إذا فالتدين الصحيح ليس ما نمارسه من شعائر في دور العبادة فقط, ولكن ما نقدمه من تضحيات في سبيل الغير, فهناك من يمنحون وقتهم وحياتهم لخدمة الغير وإنقاذ حياة, وهناك من يوفرون وقتهم لأنفسهم ويتحججون بالصلاة نهارا وليلا حتي يتجنبوا الإصابة بهذا المرض, فالإيمان الحقيقي يكمن في العطاء وليس في نجاتنا من هذا البلاء, والبطولة في بذل الذات من أجل الآخرين, وليست في الحفاظ علي صحتنا فقط.
نستطيع الآن أن نشكر الله حقا علي كل السنين التي قضيناها دون هذا القلق في حياتنا اليومية وعلاقتنا بالأشخاص والأشياء, ولم نكن نشعر بهذه النعم في العيش بدون قلق ووساوس. إذا هذا الفيروس هو كالنار التي تطهر الحديد وتنقي الذهب. ونختم بكلمات الفيلسوف باسكال: من الممكن أن يكون العقل أبطأ من القلب في إدراك الحقائق.