في مواجهة قوى العنف وسفك الدماء، وقوى الدنس والغدر، وجميع قوى الكذب وحب المال، التي اكتسبت قوة أكثر من أي وقت مضى واستفحلت شراستها، وقف التبشير برسالة المسيح، رسالة السلام.. التبشير، ذلك المصطلح المسيحي سيء السمعة في الدول ذات الطابع المتشدد إسلامياً، كل ما يقصد به هو نشر الإنجيل وتعاليم يسوع المسيح، نشر السلام. وبالرغم من أن كل شيء متاح الآن بضغطة زر عبر لوحة مفاتيح، لكننا نجد أنفسنا رغم مرور عقود على قصة اليوم مازلنا أمام ثلاث مشاهد مختلفة:
المشهد الأول في أمريكا، حيث ”التايم سكوير” أكبر ميدان في منهاتن نيويورك، مبشرون إنجيليون يدعون المارة لاعتناق مذهبهم ويوزعون منشورات، وعلى بعد بضعة أمتار يوجد منضدة لمجموعة من الشبان المسلمين يدعون فيها إلى الإسلام ويوزعون نسخ من القرآن الكريم باللغة العربية والإنجليزية.
المشهد الثاني في ليبيا: تفكيك شبكة تبشير من طرف جهاز الأمن الوقائي الليبي وتقرير لتليفزيون الجزيرة عن القبض على خلية تقوم بالتبشير في ليبيا!! واستعراض أفرادها كإرهابيين والكتب المسيحية المصادرة تعامل معاملة المتفجرات.
المشهد الثالث: من هنا حيث نقف على أرض لا تجرم قوانينها التبشير، لكنها لا تعترف به ولا تحمي من يقوم به، أو حتى يتهم به زوراً، ويتم توقيف المبشرين تحت تهم جنائية أخرى كزعزعة الأمن العام والوحدة الوطنية أو ازدراء الأديان السماوية.
ولنا في حكاية “متى” خير مثال، وهنا نحن لا نناقش التبشير لكننا نبشر باحتياج ”متى” الذي دفع ثمن اتهامه بالتبشير من حياته وصحته عبر سنين طويلة، ذهبت لزيارته، وفي منزله الصغير البسيط جلست أمام فراشه الذي مل من رقاده، لأستمع إليه ربما أجد الجديد في روايته حتى أنشرها عليكم ونستطيع اتخاذ اللازم، يقول ”متى”:
كنت مدرساً في المدرسة الثانوية الفنية للبنات في بلدتنا الصغيرة بالمنيا، كان ذلك في تسعينات القرن الماضي، وتحديدا في عام 1993، كنت مدرساً مخلصاً، شاباً وسيماً، تلتف حولي الفتيات عقب كل درس، كنت محبوباً من رؤسائي، لكن عدو الخير لا يتركنا لحالنا، فمع تصاعد تيار الإسلام السياسي في المنيا، وسيطرته على أدمغة الناس، فوجئت بشائعات أطلقتها بعض المدرسات المنتقبات، وبعض المدرسين المتطرفين، حركتهم الغيرة المهنية والحقد والتطرف الأعمي واتهموني أنني أقوم بالتبشير بين الفتيات في المدرسة، وسارت شائعة التبشير كالنار في الهشيم، وتحولت لاتهامات بالتنصير لفتيات قاصرات، والله وحده يعلم أنني لم أقم بأي نشاط ديني داخل عملي، فأنا مؤمن أن ممارسة وسائط الإيمان لها دور العبادة، أما العمل فللعمل وفقط.
ويكمل “متى” قائلاً: وفي مرة كنت ماشي أنا وزميل لي في الشارع، فجأة اعتدى علينا مجموعة من الملتحين بالجنازير، ورقدنا في المستشفي فترة طويلة، ووصل الموضوع لأمن الدولة، عقب الحادث تواصل معي ضابط أمن دولة وسألني: مين بيكرهك في المدرسة؟ عملنا تحريات عنك لقينا مافيش حاجة عليك، لكن سلام البلد أهم من أي حاجة.. وأصدروا حكمهم عليَّ حتى بدون اتهام قانوني، لأن مافيش جريمة في القانون اسمها التبشير ولا التنصير، أصدروا حكمهم علي واستدعوني بعد خروجي من المستشفي، في الكنيسة، وقرر الجميع إني لازم أسيب البلد.
تقفز الذكريات بين كلمات ”متى” الذي لم يحالفه الحظ في المنيا ولا في القاهرة، بل حمل فوق رأسه ذنباً لم يرتكبه، وظل يدفع ثمنه طول العمر..
يسترسل ”متى” ذكرياته واصفاً إياها: لم أكن صغيراً حتى الضآلة، ولم أكن عفياً حتى المقاومة، لم أكن سوى إنسان عادي، يحاول الاجتهاد في عمله، وأخترت ألا أقاوم التيار، فأنا لا أجيد السباحة ضد الجماعات الإرهابية، فأنا مسيحي لم يعلمني سوى الحب، اخبرتني الكنيسة أن حياتي في خطر، وأنني مهدد طالما بقيت هناك، فتركت البلدة وغادرتها، وتزوجت واستقر الحال بي وبأسرتي في القاهرة، وبدأت حياتي من جديد، استطعت الحصول على عمل ثابت في معرض للمستلزمات الفندقية واستمر عملي لسنوات فيه، أنجبت خلالها ولدين الأكبر عمره الآن عشرين سنة والأصغر 14 سنة، في مراحل التعليم المختلفة.
وفجأة ارتسمت علامات سوداء من صندوق الذاكرة على وجه ”متى” وانتفض فوق فراشه الذي كان يتململ فيه قبل دقائق من فرط الألم، وقال: ذات يوم وأنا عائد من عملي، صدمتني دراجة بخارية، كان الاصطدام عنيفاً ورقدت بالمستشفى أسابيع طويلة، كسر في الساق وكسر في الذراع، ثم التجمد فوق كرسي متحرك لمدة ثمانية أشهر، جف خلالها الدم في شراييني وسدتها الديون المتراكمة على عاتقي، فأصبت بأزمات قلبية حادة ومتتالية، وبعد أن تحسنت حالة عظامي وصرت أتحرك بدون كرسي، كدت أموت بسبب حالة قلبي، وأنا الذي لم أكن أعرف لليأس طريقاً الآن عرفته، لم أكن أعلم عن الإحباط شيئا لكنني الآن صادقته، وغزلت من سلاسله في حياتي عناقيداً التفت حول عنقي لتهدم ما تبقي من أيامي، وتعصف بمستقبل ابنائي.. أما زوجتي فلولاها لبتنا خاويي البطون بلا كسرة خبز تسد جوعنا، ولولا مساعدة ابني الأكبر الذي يعمل في صيدلية فترة المساء ويذهب للجامعة في الصباح لما أكملنا تعليم الأصغر، لكن لم يفلح شيء، فقبل أن أجري جراحة القلب على نفقة الدولة، أخبرني الأطباء أنها تمثل خطورة على حياتي، فقلت آمين إنها رسالة حياة لا موت، لكن بعد أيام فوجئت أنني غير قادر على الحركة نهائياً، وبالكشف والفحوص والأشعات، فوجئت أن الشريحة والمسامير التي كنت قد ثبتها منذ سنوات في ساقي بعد الحادث، كسرت بلا أسباب واضحة، والآن وقد اتخذ الأطباء قرار إجراء الجراحة لي, تقف التكلفة عائقا بيني وبين العودة للحياة والحركة، إذ تترواح التكلفة ما بين خمسة وعشرون ألف جنيها إلى 30 ألف جنيها, لا امتلك منها جنيها واحدا, لكنني أحيا على رجاء القيام والحركة مرة أخرى، كنت أتذمر على الكرس المتحرك والآن لا إطالة، فأنا طريح الفراش لا يسعني سوى الكلام فقط، مرة بالشكوى ومرة بالآلام.. فهل تنقذوني؟.