البدايات,, أول كل شيء ومستهله.. ولكن ما السر والسحر الكامن في أغوارها.. لغز شيق.. يتحداني بإلحاح مطالبا مني فك شفراته اللعينة والتي احتار فيها كل علماء الآثار واللوغاريتمات… وعاد كل متطوع يجر أذيال الخيبة معلنا إخفاقه واستسلامه أمام شفرة ملعونة. جميلة هي البدايات.. بل رائعة.. بل خلابة.. لها ذلك البريق الدقيق والرحيق الرقيق.. تسلب العقول وتسحر الألباب.. كاملة هي ومكتملة ككمال الاكتمال.. قاسية في فتنتها ووهجها الوضاء.. تنسدل بنعومة كالماء الزلال الرقراق المنحدر بانسياق وتلقائية من فوق شلال بديع محاط بالخضرة النضرة وفي الخلفية مشهد غروب الشمس المهيب يلوح في الأفق البعيد..
لوحة فنية رائعة تكتمل فيها كل عناصر الجمال والبهجة.. لا تشوبها شائبة.. ولا يعكر صفوها شيء.. إنها البدايات!!
طالما آمنت أن لكل شيء في الحياة بداية.. سواء كان في نطاق إدراكنا ووعينا أو خارجه فمنظومة الكون بما فيه من المحسوسات والمدركات ليست بالقطع قاصرة علي ما يمتلكه كل فرد منا في حيز عقله ومشاعره ووجدانه الذي يمتلكهم والتي تلعب عوامل لا حصر لها في تشكيلهم… كعامل الوراثة والقدرات العقلية والتربية والتعليم والتحديات و…. إلخ…. إنما منظومة الكون لا تدرك كاملة مكتملة إلا من قبل خالقها الله عز وجل… هو بدأ خلقها ويدرك موعد قيام الساعة والنهاية.
أدرك أن لكل شيء بداية وطالما له بداية فحتما له نهاية…. سواء كان أمرا ملموسا أو نفسيا.. فعلي سبيل الملموس.. تمسك تفاحة شهية تتمتع بملمسها وتستمتع بحلاوة مذاقها.. دقائق وستنتهي.. وعلي سبيل النفسي.. حزن علي فقدان شيء ما ورويدا رويدا تهدأ ويهدأ الحزن حتي ينتهي.
قس علي ذلك كل شيء في الحياة… عظم أو صغر… لا يخرج عن تلك القاعدة الإلهية الأزلية, فماله بداية.. له نهاية.. اللهم إلا أمرا واحدا.. حكم عليه بالأزل والأبد سأذكره في ختام مقالي لهدف في نفسي….
إذن فقد اتفقنا أن الحزن, الفرح, التعب, الراحة, الصحة, المرض, الفوز, الإخفاق, النجاح, الفشل, الغني, الفقر….. كل شيء له بداية ونهاية…
لكن العجب كل العجب… ليس في الأشياء القدرية التي لا نملك فيها شيئا ولا نقدر أن نمنعها أو نغيرها… إنما فيما نسعي نحن إليه ونبتغيه… نذهب إليه بإرادتنا الحرة وبكامل قوانا العقلية والعاطفية والجسدية… العجب في روعة بدايات رغباتنا… وما يتبعها!!
نريد شيئا.. نتمناه.. نتعلق به. نشغف ونتيم به حد العشق.. فنهم بكامل إرادتنا الواعية.. نطوي الصحاري ونتسلق المرتفعات.. نتحمل معاناة الأسفار والترحال.. نضحي بكل غال ونفيس…. لنبلغ مبتغانا.. عشقنا.. هوانا… في بدايات.. هي أروع البدايات.
نتزين بكل ما في مقدونا بل أكثر.. نتسربل بأفخم الثياب ونتحلي بالذهب والماس.. نتطيب بأطيب العطور وأفخرها وكأننا أمير في ليلة عرسه المنشودة وزفافه إلي جميلة الجميلات.. أميرته التي اشتهاها قلبه… وها هي بين يديه وينقضي الحفل الأسطوري… وتنقضي الليلة… ويأتي الصباح.. وصباح فصباح… وتمر الأيام.. والشهور.. ورويدا رويدا يتبدل الثوب الفخيم بأبلي الثياب.. وتضيع نسمات العطر وسط العواصف المحملة بالأتربة والغبار.. ويستبدل الحلي الفاخر بصفيح قارب علي الصدأ والتلف.. نسقط في حالة تدريجية من الفتور… تقودنا إلي مرض خبيث… هو مرض اعتياد الأشياء…
أما كانت تلك السيارة هي مشتهاك… أما مكثت سنين تحلم بها.. وشهورا تدخر لها.. حتي اقتنيتها… ثم زهدتها.. إنها لازالت كما هي برونقها. بروعتها.. ما طالها خدش أو عطب وما أصابها قبح.. أم أن القبح قد أصابك أنت فما عدت ترضي..
أما كان هذا العمل حلما في درب خيالك.. طرقت كل الأبواب.. وربت علي كل الأيادي لتحصل عليه.. ما بالك لا تري فيه غير التعب والضجر والسأم بعد أن سقطت صريع مرض اعتياد الأشياء..
ألا تستيقظ صباحا فتفح عينيك تري الكون كله حولك.. وغيرك فاقد لنعمة البصر وشاكر.. ثم تنهض واقفا علي قدميك يحملانك ويسيران بك إلي جهتك المقصودة أينما كانت.. وغيرك عاجز لا يتحرك وشاكر.. وتراك تلعن الأيام وتشكيها وتشتكي الوهن والضعف والعلة وما العلة إلا في مرض اعتياد النعم والأشياء.. وتجد نفسك وإن فقدت نعمة واحدة منها ـ معاذ الله ـ لتمنيت زوال كنوز العالم كله ـ إن كنت تملكها ـ مقابل أن تستعيدها.
يعافنا اللهم من مرض اعتياد النعم والأشياء… لتظل روعة البدايات دائمة في حياتنا مستمرة طيلة استمرار النعم والمنح والمبتغيات التي سعينا لها.. حتي تأتي نهايتها وقتما يشاء المولي… وإن كنت قد ذكرت لكم أحبائي في البداية أنني أؤمن أن لكل شيء.. كل شيء بداية ونهاية.. إلا شيئا واحدا… ألا وهو… الحب الصادق الحقيقي.
هو المستثني الوحيد من هذا القانون الإلهي… لأن الله محبة… والله- تعالي ـ أزلي أبدي… وأما الحب الصادق الحقيقي… وإن كانت له بدايات فليس له نهايات… وكل لحظة فيه ـ إلي الأبد ـ هي روعة البدايات.