مواجهة العالم للخطر الكوني الذي رمي به فيروس كورونا بوجوهنا وحلوقنا دفع كثيرين للوقوف والتأمل… هل كل ما وصل إليه العالم الحديث من تطور وتراكم تاريخي لمكتسبات العلم والتكنولوجيا أضعف من أن يواجه فيروس لا يري؟ هل كل ترسانات الأسلحة النووية والبيولوجية الكفيلة بفناء العالم وتدميره التام أربع مرات علي الأقل, تعجز عن تدمير أو حتي تحييد فيروس لا يري بالعين المجردة من كتر ضآلته؟..
ربما تبدو الأسئلة فلسفية في ظاهرها لكن الحقيقة غير ذلك ـ هي أسئلة واقعية جدا لأن إجاباتها تدين بشدة الدول الكبري بالدرجة الأولي بحكم قوتها الاقتصادية وإمكانياتها العلمية الهائلة ونفوذها السياسي المتحكم في إدارة العالم لخدمة مصالح ذاتية وأحيانا حمقاء ومدمرة.. دولة كالولايات المتحدة مثلا, والتي تتباهي بقوتها الكونية الهائلة تنسحب من اتفاقية المناخ وتتنصل من مسئولياتها تجاه حماية الكوكب الذي يتآكل من حولنا.. والأكثر خزيا أن تتوقف الدولة الأكبر والأقوي عالميا عن دعمها لمنظمة الأنروا التي ترعي شئون اللاجئين والمشردين ـ وذلك للضغط علي الفلسطينيين لكي يرضخوا لسياسات الاحتلال الإسرائيلي بكل قبحها وجرائمها. كان طبيعيا أن يفاجيء فيروس كورونا دولة تنفق علي الإعلان 250 مليار دولار وتخصص للسجون ميزانية تفوق ميزانية البحث العلمي.. كان طبيعيا أن يضرب فيروس كورونا العالم علي قفاه ـ أغنياؤه وفقراؤه ـ هذا العالم الذي تراجعت فيه مسئولية الدولة تجاه مجتمعاتها لصالح قلة من تجار الرأسمالية ومروجي قيمها المتوحشة.. لقد تعاملت نظم الحكم في الدول الكبري شرقا وغربا مع مفهوم النظام العالمي الجديد بمنتهي الغباء ـ وبدلا من اعتبار ثورة الاتصالات والمعلومات فرصة جديدة لبناء منظومة عالم أكثر أمانا وتعاونا واحتراما للقيم الإنسانية والتاريخية, تبني هؤلاء القادة سياسات تحكمت بها غريزة الامتلاك والتضحية بالطبقات الوسطي لأنها ستعطل عجلة التجارة عن الدوران السريع لصالح الأغنياء ـ ولكي تدور بالسرعة المرغوبة فلابد أن تدهس في طريقها نمل الطبقة الوسطي ـ لكن هؤلاء القادة خانهم الذكاء التاريخي وافتقدوا للمنطق الذي يقول ببساطة إن من تسقطهم من حسابات الأخلاق والعدالة مازالوا يملكون حق التصويت لك أو ضدك في أي انتخابات قادمة..
وهذه الحقيقة تعني أن القلق سيظل يلاحق أكبر الدول وأشهر القادة وكأنها عقدة سيزيف المذنب الذي يصعد بالصخرة جبلا عاليا, وكلما قطع مسافة أعادته الصخرة لنقطة البداية.. العالم الجديد الذي بشر كهنته بأنه سيحول القبائل إلي قرية واحدة والقري إلي مدينة فاضلة يقف اليوم عاجزا أمام فيروس مجهول الهوية يصيب الملوك قبل الصعاليك ويحبس الملايين في نيويورك وكاليفورنيا وروما ونابولي وبرلين ومدريد ومختلف مدن العالم في بيوتهم, لتبدو الشوارع التي كانت تصرخ بالإعلانات ولافتات محلات البيتزا والماكدونالدز ومعارض السيارات خاوية ومخيفة وكأنها شوارع ماتت فجأة متأثرة بجلطة أخلاقية وقيمية حولت الحضارة الحديثة إلي مخلوق مشوه وممسوخ.. لماذا نشعر بصدمة كورونا كعالم معاصر ولم يصدمنا أن عيون ومشاعر وأحلام أجيال العالم الجديد الذي بشرنا به كهنة العولمة والتجارة الحرة معلقة ومخدرة تحت تأثير أغاني الروك وميكي ماوس ـ أو كما يصور بروعة بنجامين باربير مدير مركز والت وايتمان المشهد العالمي المتردي قائلا: في كل أرجاء المعمورة تجد نظرات العرائسساندي كروفوردويوكيهونتس تلاحقك في كل ركن كما مانت تلاحقك نظرات تماثيل لينين في الاتحاد السوفيتي السابق.. أو كما يقول ناتان غارديلز المفكر الأمريكي والباحث في شئون المستقبل لقد صارت زغاريد مادونا ومايكل جاكسون آذان النظام العالمي الجديد..
كثيرة إذن هي الرؤي والتأملات التي تفرض علي أقطاب العالم الجديد أن يدركوا أن الإمبراطوريات تعيش طويلا في عالم يعيش علي إيقاع منتظم وحد أدني من نغمات العدالة والجمال والخير ـ حتي حقب التاريخ الاستعماري من آلاف السنين كان العالم معها معلقا بقضايا الحرية والاستقلال والعدل, في مواجهة الظلم والقهر, وكان لدي الشعوب المقهورة آمال وغايات تؤمن أنها ستحقق منها الكثير… من ثلاثة عقود تقريبا والعالم يعيش عصر الكورونا السياسية ـ عصر الرأسمالية المتوحشة التي قتلت آمال 90% من سكان العالم حماية لأطماع قلة من وحوش العولمة واقتصاد السوق ومدمني القتل الجماعي بأسلحة الإعلان والإعلام والتجارة الحرة.. وأخيرا لعل المظهر العادل والديموقراطي الوحيد في تفشي فيروس كورونا أنه ليس عنصريا ولا يمينيا متطرفا ولا انتقائيا ـ إنه يزور الجميع بعدالة..