الفكر المنفتح للآباء الرسل
في بداية الكنيسة الأولي حدث خلاف علي مشكلة تعرف في التاريخ بمشكلة التهود, وكان هناك رأيان:
أحدهما يقول إن الإنسان الوثني لابد أن يصير يهوديا أولا قبل أن يصبح مسيحيا.
والآخر يقول إن الوثني يمكن أن يصير مسيحيا مباشرة دون أن يتهود أولا.
وانعقد مجمع للرسل ودافع بطرس الرسول عن فكره, وبولس الرسول عن الفكر الآخر, وبعد الصلاة والحوار والمناقشة انتصر الفكر المنفتح, الذي يقول إن الوثني يصير مسيحيا مباشرة.
وهذا ما سجله لنا سفر الأعمال: قد رأي الروح القدس ونحن, أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر, غير هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام, وعن الدم, والمخنوق والزنا, التي إن حفظتم أنفسكم منها فنعما تفعلون (أع15:28), وكتب قرار هذا المجمع, وانتهت المشكلة.
يوجد فكر متشدد لا يستقيم مع تقدم الحياة, فتخيل معي لو كان هذا الفكر المتشدد هو الذي انتصر! فماذا يكون لو إنسان بوذي أراد أن يكون مسيحيا؟! هل نقول له يجب أن تكون يهوديا أولا؟
وفي نفس المجال, ونفس تاريخ الكنيسة الأولي جاءت مشكلة خدمة الأرامل: العبرانيات واليونانيات, وكيف أنه كان يوجد تقصير في خدمة أرامل اليونانيين. ووقف الآباء الرسل وقالوا بكل وضوح: لا يرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد. فانتخبوا أيها الإخوة سبعة رجال منكم, مشهودا لهم ومملوئين من الروح القدس وحكمة, فنقيمهم علي هذه الحاجة (أع6:2-3)..
واختاروا سبعة رجال مملوئين من الروح وأقاموهم شمامسة, وكان أولهم القديس إستفانوس الذي صار رئيسا للشمامسة وانتهت المشكلة.
الكنيسة المسيحية يعمل فيها روح الله, وروح الله لا يفارقها, ويعمل من خلال آبائها, ومن خلال قديسيها, والسيد المسيح أرسل لنا الباراقليط الروح المعزي لكل ما يمكث معنا ويدبر الكنيسة.
لكل زمن التغيير الخاص به, فلا نستطيع أن نقول إن روح الله كان قديما, فروح الله دائم كما نصلي في صلوات الساعة الثالثة: روح الحق الحاضر في كل مكان والمالئ الكل, فينبغي للإنسان المسيحي أن يكون له دائما الفكر المنفتح في حياته.
التطور في تاريخ الكنيسة
إن العالم يتغير, فيجب أن تتواكب عقولنا مع هذا العالم المتغير, ومن أمثلة ذلك:
+ خيمة الاجتماع في العهد القديم, فقد كانت تنقل من مكان إلي آخر, ويتم تركيبها في المكان المراد تخصيصه للعبادة. فهل تصلح الخيمة الآن؟ بالطبع لا, ففي عصرنا الحالي لابد من إنشاء مبني ليكون محلا للعبادة, ولكن من الممكن أن نجد شخصا يقف عقله عند نقطة واحدة, وهي أنهم كانوا قديما يعبدون الله في خيمة.
+ مثال آخر, كان الكتاب المقدس قديما مخطوطا علي جلد, أو علي ورق بردي, وكان سمك السفر الواحد ضخما جدا, أما الآن فقد وجدت المطابع, وتوجد أيضا طباعة بالألوان. فهل يتوقف العقل عند أنه يجب القراءة من المخطوطة فقط؟!
وأيضا عندما طبع الكتاب المقدس وصار في كل بيت, اعتبروا ذلك بدعة, كيف ينتقل الإنجيل من الكنيسة إلي البيوت؟ ولكن الرب أراد أن ينتشر الإنجيل في كل مكان.
+ في بداية الكنيسة المصرية, كنا نصلي باللغة القبطية بلهجاتها المتنوعة, وعندما وجدت اللغة العربية للاستخدام, ومنذ عصر القديس ساويرس بن المقفع في القرن العاشر الميلادي, أصبحنا نصلي في كنائسنا باللغة القبطية والعربية واليونانية.
وعندما نوجد في الخارج, نصلي باللغة المحلية للبلد سواء الإنجليزية أو الألمانية أو السويدية أو الفرنسية, وهكذا حسب لغة المكان, فلابد من التطوير. والإصرار علي لغة واحدة قد يفقد الكنيسة نفوسا كثيرة. فلا نستطيع أن نقول إنه في السماء توجد لغة معينة, فالسماء توجد به لغة التسبيح, وعندما نذهب إلي هناك سنعلم ما هي لغة التسبيح, هل هي اللغة العربية أم الإنجليزية أم ….. وقد قام البعض بعمل بعض الأبحاث لمعرفة اللغة التي كان آدم يتحدث بها, أو التي تحدثت بها الأجيال التي تلته.. ولكنه التطور.
+ البابا كيرلس الرابع أبوالإصلاح (1853-1862م): هذا البطريرك المبارك سبق عصره, وأحضر مطبعة, وأمر باستقبال هذه المطبعة التي كانت في مثل هذه الأيام ضربا من ضروب الخيال بالتراتيل والألحان.
واعترض بعض الناس علي مثل هذا الاستقبال لمطبعة من حديد, علي اعتبار أن هذا الاستقبال يليق بالأب الأسقف, أو الكاهن الجديد, وعندما نقرأ في التاريخ نجده سابقا لعصره.
في زمنه أيضا عمل علي تعليم وتهذيب البنات في مدرسة خاصة بهن, وكانت الأولي في مصر, وكثير من الناس لم يتقبلوا الفكرة, أما الآن فأصبح هذا الأمر شيئا عاديا, لكن في زمنه كان تحديا كبيرا.
+ وإذ كان لابد أن يتطور العقل حتي في مناهج التعليم اللاهوتي نجد: الأرشيدياكون حبيب جرجس الذي رأي أن خدمته بالوعظ وتعليم الكبار لم تكن كافية للنهوض بالكنيسة القبطية, ففكر في الاهتمام بالأطفال الصغار, فأسس مدارس الأحد سنة 1900م, رغم ما تعرض له من انتقادات من بعض القيادات الدينية آنذاك, فقد هاجمها المتمسكون بالقديم, ومن يعارض التحديث, وكان منهم الأنبا غبريال أسقف دير الأنبا أنطونيوس وبوش, حيث كتب عن مدارس الأحد ونشأتها فقال: إنها جماعة مدسوسة علي الكنيسة, استغلت بعض السذج من الشعب في صورة حملة المشاعل بين أبناء الكنيسة, وتمكنوا بالخديعة والمكر أن يلفتوا إليهم أنظار الناس ويكسبوا إعجابهم, تلك هي مدارس الأحد, المرفق الذي أخذوا ينفقون عليه بلا وعي وذلك في سبيل نشر المبادئ التي تصبو إليها أنفسهم, فأي تعليم هذا الذي يسمح باختلاط الشبان والشابات في مكان واحد؟, واتهم الأنبا غبريال مدارس الأحد أنها تتجاهل القيادات الكنسية ورجال الدين, وتستأجر الأقلام القبطية في الدعوة إليهم! وقال عن مجلة مدارس الأحد إنها طفحت بمساعيهم في الطعن علي المطارنة والقسوس!
وقابلت مدارس الأحد عدة حروب وصراعات حتي بزغت للنور من خلال صدق رسالتها وسمو أهدافها, حتي كتب عنها البابا كيرلس الخامس في نوفمبر 1907م مقالا قال فيه: من ترونهم اليوم أحداثا هم رجال المستقبل, رجال الكنيسة, فعلموهم واعتنوا بهم, وربوهم علي الحق والفضيلة, وازرعوا في نفوسهم أغراس البر والنعمة, اجذبوا الشبان إلي الكنيسة وعلموهم أن يذكروا خالقهم في أيام شبابهم.
وكان تأسيسه لمدارس الأحد هو العمود الرئيسي الذي قامت عليه نهضة الكنيسة القبطية في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
+ قديما كانت الكنائس تضاء بالشموع كما في بعض الأديرة, ولكن مع الاتساع الآن كان لابد من استخدام الكهرباء.
كذلك لم يكن في الكنائس أجهزة تكييف, فحرارة الجو لم تكن مرتفعة, أما الآن وبسبب وجود المصانع التي تخرج ثاني أكسيد الكربون الذي يسبب زيادة حرارة الأرض لزم وجود أجهزة التكييف والمراوح وغيرها..
فهل يأتي شخص الآن ويقول لا يجب وضع أجهزة التكييف في الكنائس, لأنه لم يأت ذلك في الإنجيل!
+ نجد أيضا الفكر المنفتح في الأديرة التي نشأت أولا في مصر ثم امتدت إلي كل العالم, خلال العصور الوسطي شكلت الأديرة مراكز حضارية لحفظ الفكر والعلوم القديمة, وبنت الكنيسة الجامعات الأولي في العالم الغربي, أخذت معظم البحوث العلمية مكانة في الجامعات المسيحية.
وعمل بها أيضا أعضاء من الجامعات الدينية, وعمل العديد من الرهبان ورجال الدين المسيحي في المجال العلمي, وشغلوا مناصب عالية كأساتذة في الجامعات الغربية, وكان بعضهم مؤسسين وآباء لفروع علمية, لعل أبرزهم غريغور مندل الراهب النمساوي أبو علم الوراثة, فهو أول من اكتشف بدايات قوانين الوراثة, وأيضا جورج لومتر وهو أول من اقترح نظرية الانفجار العظيم وكوبرنيكوس الذي يعتبر أول من صاغ نظرية مركزية الشمس.
لذلك نجد أن أكبر الجامعات العالمية مثل جامعة أكسفورد, وجامعة كمبريدج, كانت في الأصل أديرة للرهبان, وعند زيارتك لجامعة أكسفورد تجد عند المدخل حجرة صغيرة يقال إنها كانت لتصليح الأحذية, حيث كان يجلس بها أحد الرهبان لتصليح أحذية الزائرين القادمين من أماكن بعيدة.
إذا كان الراهب في خطوة للأمام والانفتاح وهو داخل ديره, هل نقول له إن ما تفعله هذا من تطور يعتبر خطأ في الرهبنة؟ بالطبع لا, فهذا نشاط وتقدم يفيد العالم كله.
إن العالم يتطور يوما بعد يوم, وفي حاجة إلي فكر منفتح متجدد دائما.