أواصل في هذا المقال الحديث عن القيم الاجتماعية التي تحدثت عن بعضها في مقالات سابقة، وفي هذا المقال أتناول “مفهوم” الشرف، وأتساءل بداية: هل الشرف قيمة إنسانية؟ قد يكون هذا السؤال مجرد تحصيل حاصل، لأن السائد والمعروف أن الشرف يضفي قيمة على حياة الإنسان. بل إن البعض يعتبره قيمة عليا ورأسمال اجتماعي. ولكن مع ذلك فربما تكون هناك مبالغة في الإعلاء من قيمة الشرف، أو بكلمات أخرى قد يكون هناك مقاصد “غير شريفة” دائما وراء الإعلاء من قيمة الشرف. وعندما أقول “قيمة” فلا أعني المعنى المجرد لهذه الكلمة، فالقيمة المجردة هي مجرد لغة، ولكن ما أعنيه هو معانيها واستخدامتها في الواقع، أي وفق رؤية جماعة من الناس للمفهوم وجعله قيمة يتم من خلالها الحكم على السلوكيات والمواقف.، ويقع الشرف ضمن هذا النطاق شأنه شأن سائر القيم الإنسانية. وبهذا المعنى، فإن الشرف له خصوصيته التي تجعله مختلفا نسبيا عن باقي القيم، وإذا شئنا ترتيب القيم الإنسانية، فإن الشرف قد يكون موقعه في ذيل قائمة القيم، ويمكن بسهولة أن يخرج من صفاء القيم، إلى أوحال الممارسات الإنسانية المقيتة. وأسباب هشاشة هذه القيمة متعددة، فمنها ما هو متأصل فيها، ومنها ما يجعلها دائما منفتحة على سوء الاستخدام. فمن ناحية أولى، الشرف “مفهوم” ملتبس قيمة وليس بقيمة في الوقت ذاته، ومن ناحية ثانية ثمة تعارض بين الشرف وقيم أرقى منه مثل المساواة والإنصاف والرحمة، ومن ناحية ثالثة، فإن الشرف الأكثر قابلية للتوظيف من أجل إصدار أحكام قيمية، وأخيرا فإنه، دون سائر القيم، الذي ارتبط بالجريمة (جرائم الشرف).
لنقل بداية أن الأشياء تعرف بأضدادها، فما هو الوصف المقابل للشرف؟ فى الحقيقة لا يوجد شئ محدد يمكن تعريفه على أنه المقابل للشرف، على خلاف قيم أخرى مثل المساواة والتي يقابلها التمييز، أو الكرم الذى يقابله البخل، الخ. أما الشرف فيعرف فقط من خلال الإخلال به، أي وصف فعل ما بأنه مخل بالشرف مثل الخيانة أو الانحلال، أو التقصير، وهي في مجملها أمور نسبية ينبغي أن تحددها من خلال معايير قانونية أو اجتماعية، وهي أيضا أمور نسبية وتخضع لإساءة الاستخدام في كثير من الأحيان. ومع ذلك، وبما أنه من المتوقع ألا يكون الشخص خائن أو منحل أو مقصر، فإن الشرف في هذه الحالة يكون قيمة إجبارية وملزمة، وبالتالي فليس هناك قيمة عندما يكون (الشرف) هو الوضع العادي والمتوقع. ومثال ذلك مواثيق الشرف المهني والتي لا تعني، في واقع الأمر، فعل شئ إضافي يستحق الثناء بل هي تقر ما يجب فعله وفقط. إن الشئ الملزم للجميع ليس من سمات القيم، ولكن من سمات المعايير والقواعد الاجتماعية والقانونية، فأن لا يرتكب الشخص جريمة لا يعني أنه أفضل من غيره، ولكن إذا ارتكبها فسوف يكون أسوأ من غيره.
أما النقطة الثانية فهي التعارض بين الشرف والمساواة. فمن حيث المعنى اللغوي، فإن الشرف يعني، فيما يعني، التراتيبة الاجتماعية والطبقية التي تتعارض مع قيمة المساواة. إن المعنى الأول لكلمة الشرف هو “علو النسب والقدر مع حميد الصفات”، وتأتي القيمة من هذه التراتبية، فمن البشر من يسمونهم “أشراف” أو “أصحاب المقام الشريف”. هذا التصنيف وهذه التراتيبة لا تتسق وقيمة المساواة بين البشر. وفى الحقيقة أن القوة التصنيفية للشرف هائلة وخطيرة، وإساءة الاستخدام منهجية ومنظمة، ولعل أسواء التعبيرات التي يجرى تداولها وخاصة في أوقات الاستقطاب السياسي هو تعبير “المواطنين الشرفاء”، ولا يغيب عن القارئ أن الهدف من هذا التعبير ليس وصف مواطنين بأنهم شرفاء، ولكن اتهام آخرين بأنهم “غير شرفاء”. وفى أوقات الصراع والحروب يرتفع مؤشر قيمة الشرف، وهنا يكون المقابل واضح وهو “الخيانة”. وكل طرف يعتبر أن من يتعامل أو يتعاطف أو حتى لا يدين الطرف الآخر في النزاع هو شخص غير شريف وخائن. فالشرف مفهوم استقطابى حاد، وسلاح من أسلحة الحروب والنزاعات.
وبذكر الخيانة، تأتى إلى واقع “قيمة” الشرف من منظور النوع الاجتماعي، فإذا كان شرف الرجال يقاس بالأساس في أوقات النزاع وساحات القتال، فإن شرف النساء دائم ويومي وجسدي بامتياز. وهنا يرتبط الشرف، “شرف البنت”، بالعفة. وشرف البنت وعفتها لا يخصانها بقدر ما يخص الجماعة التي تنتمي إليها، فإذا أخلت بالشرف، الذي تُحاسب عليه دون أن تملكه، فإن العقاب يكون قاسيا من أجل التطهر وغسل العار، بداية من الإقصاء وحتى القتل بلا “رحمة”، فيما يعرف بجرائم الشرف. إن الشرف هو “القيمة” التي ندفع ثمنها غاليا.
وفي كل الأحوال، سواء ارتبط الشرف بالبطولة والولاء، أو بالنزاهة، أو بالعفة، فإنه يصبح قيمة ورأسمال اجتماعي، وخاصة عند أولئك الذين لا يملكون السلطة السياسية أو الاقتصادية أو الأبوية، ومنهم من يدعي بكل فخر أنه لا يملك إلا الشرف فيدافع عنه باستماتة وقد يتحايل عليه بمكر، أو يتهكم منه عندما يضيق به الحال، ولعلنا نتذكر المقولة الشهيرة للفنان توفيق الدقن والتي باتت أشبه بالمأثور الشعبي: “أحلى من الشرف ما فيش”.