مئات الأطفال ينادوها “ماما” فهي من غمرت قلوبهم بالحب والعطف والحنان تاركة خلفها بلادها وأسرتها وحياتها الكريمة متجهة إلى جرحى المجتمع المصري لتنتشل صرعاه الذين يقعون في معركة الحياة…. هى لليان تراشر ( أم الأيتام المصريين )….
أطلق عليها الجميع لقب “أم المصريين ” لعطائها من أجل قضية الوطن العربي والمصري والنسائى بشكل خاص حيث خرجت على رأس المظاهرات النسائية من أجل المطالبة بالاستقلال خلال ثورة 1919 وحملت لواء الثورة عقب نفى زوجها الزعيم سعد زغلول إلى جزيرة سيشل، وساهمت بشكل مباشر وفعال في تحرير آفاق المرأة المصرية… انها صفية زغلول ( ام المصريين).
(…… إن الامومة يا ابنتي ليست مجرد حمل ووضع ورضاع. لان هذا تتساوى فيه الانثى من كل نوع. وهي عملية دنيا فائدتها للنوع اكثر منها للفرد. ولكن الامومة في جوهرها يا ابنتي بناء وانشاء وغرس. فإذا سمق – بمعنى (علا وأرتفع )- البناء واعجب الانشاء وازدهر الغراس انتصرت الامومة في المرأة واحتفلت بيوم عيدها
ابنتي .. امنحي الحنان من قلبك الكبير ولا تنتظري الجزاء فان فعل الخير في ذاته يحمل جزاءه بما يضفيه على فاعله من السعادة وراحة الضمير ثم ان التجرد للمثل الاعلى بدون مقابل هو ارتفاع بالإنسانية الى اوج رفيع يسمو على الجزاء بل لعله يترفع عنه…
إنها الأم والكاتبة والحائزة على جائزة اليونسكو عن كتابها ( إلى ابنتى )الدكتورة نعمات احمد فؤاد.
هؤلاء السيدات الثلاثة مع اختلاف مكان نشأتهم وزمن كلا منهما ، إلا أنهم سيظلوا علامة فارقة فى تاريخ الامومة التى تجاهد للتضيحة مع تقدير دور المرأة ومعرفة مكانتها الحقيقية دون مبالغة او نقصان.
لليان تراشر:
نشأت بولاية فلوريدا الأمريكية فى جو مشبع بالحب والإخلاص وعائلة تغمرها السعادة والسلام. وكان سؤال يتردد بداخلها حول الأفارقة وكيف يعيشون فى ظل تدنى الأحوال التى كان مجتمعها يتحدث عنها.
بدأت خدمة الأطفال المحرومين بعد تخرجها من الجامعة وعملت بملجأ للأيتام بكارولينا، وشأنها شأن كل الفتيات تقدم لخطبتها أحد الشبان ولاقي قبولاً لدى أسرتها، وأنهمكت لليان في إعداد جهاز العرس غير أن صراعاً عنيفاً كان يمزقها بين مستقبلها السعيد فى البيت الهادئ وبين المستقبل المجهول الذى تتمنى فيه خدمة الأطفال في افريقيا، وسرعان ما حسمت هذا الصراع بأن أختارت السفر لمساعدة الأطفال المحرومين وبدأت خدمتها فى أسيوط عام 1910 وتعلمت اللغة العربية وأجادتها في وقت قصير.
تجولت في الشوارع ورأت الأطفال مهملين يقضى عليهم المرض، فعزمت على أن تكرس حياتها لخدمة الأطفال المصريين وبعد زيارتها لسيدة مريضة فوجئت بأنها ماتت تاركة طفلها الرضيع فأخذته لليان وأعتنت به غير أن المرسلات المقيمات معها ضاقوا من صراخ الطفل فتركت لليان منزل المرسلات واستأجرت بيتا وأصبح هذا البيت هو النوأة الحقيقية لملجأ الأيتام والمحرومين وذهبت تتجول في القرى المجاورة لأسيوط تعرض خدمتها، وهوجمت فى البداية لكونها سيدة أمريكية تعتنى بأطفال مصريين، وبعد جهاد مرير ووقت طويل أدرك الناس غايتها النبيلة فتعاونوا معها وأقبل الأيتام عليها، أخذت تجول فى العاصمة وتبيت فى منازل العمد متجاهلة نظرات القرويين لكونها فتاة سافرة تسير فى البلاد بمفردها، ولم تفشل كما كان المتوقع بل أصبح أسمها رمزاً للخدمة والتضحية وتوافد اليها مئات الأطفال المحرومين طلباً لمساعدتها، ورغم تزايد الأعداد ونصائح المقربين لها بالإكتفاء بعدد محدود كانت دائما تردد مقولتها الشهيرة: لا يمكن أن أوصد بابى أمام يتيم أو جائع أو محروم”.
كان لليان تقضى يومها بالإستيقاظ فى الصباح الباكر لإعداد اللبن للأطفال الرضع والفطور لمن هم أكبر سناً ثم تفصيل الملابس وقراءة البريد ثم الكشف بصفة دورية عليهم فى مستشفى الأمريكان وبعد الغذاء كانت تقوم بحياكة الملابس التى فصلتها فى الصباح وحتى الساعة الحادية عشر مساء كانت لليان تمر على بيوت المتبرعين لتجمع الدقيق لفطور الصباح.
وفى إحدى الأيام نفدت كمية الدقيق وعند توديعها لأحدى صديقاتها وعلى رصيف المحطة رأها رجل ثرى حياها على مجهوداتها وأعطاها مبلغاً كان ينوى إرساله إليها، وأنفرجت أزمة الدقيق فى لحظة.
وعند نشوب الحرب العالمية الثانية إرتفعت الأثمان حتى كاد البيت الذى يأوى الأطفال لا يغطى مصاريفه والفتيات لم يكن يملكن غير ثوب واحد وفى هذه الشدائد وبعد صلاة أرسل إليها مندوب أمريكا المفوض رسولاً أبلغها أن جمعية الصليب الاحمر ارسلت إليها ملابس وطعاماً كان موجهاً لليونان غير أن اليونان سقطت فى أيدى الألمان فقررت الجمعية توجيهها لصالح الأعمال الخيرية ومنها مشروع لليان، وبعدها بوقت قصير خصصت وزارت التموين المصرية 35 بالة من الأقمشة سنوياً لها
كانت لليان أماً بحق لا تترك الفتيات حتى بعد زواجهم بل كانت الصدر الحنون الذى يتسع لهم جميعا بمشاكلهم وهمومهم فقدمت للمجتمع فتيات وشبابا صالحين وفى احتفال عام 1944 قالت لليان: منذ 34 عاماً تركت بلادى وأنا فتاة صغيرة غير أن كل الأشياء تغيرت ، فالبلاد التى حسبتها غريبة أصبحت جزءاً منى وأصبحت جزء منها، لقد تبنتنى مصر كما تبنيت أنا أطفالها، وأصبحت أفراحها أفراحى وآلامها آلامى، وأصبحت أمريكا ذكرى جميلة”.
هذه قصة الأنسة التى يناديها الالوف”ماما” هذه الفتاة التى وهبت حياتها وتركت بلادها لخدمة الايتام المصريين.
صفية زغلول:
حرم الزعيم المناضل سعد زغلول قائد ثوره 1919 بمصر .و حينما تزوجته لم يكن سوي قاضيًا مصريًا ولكن عندما دخل المعترك السياسي ساعدته ووفقت بجانبه في الشدائد ولقبت بصفية زغلول نسبة إلي زوجها سعد زغلول . لقبت أيضًا بأم المصريين بسبب دفاعها المستمر عن القضية العريية بشكل عام والقضية المصرية بشكل خاص وأُطلق عليها هذا اللقب عندما ألقت السكريتره الخاصه بها بيان علي المتظاهرين حينها هتف أحد المتظاهرين بأم المصريين و منذ ذلك الحين وهي تلقب بأم المصريين.نص هذا البيان علي “إن كانت السلطة الإنجليزية الغاشمة قد اعتقلت سعدًا ولسان سعد فإن قرينته شريكة حياته السيدة صفية زغلول تُشهد الله والوطن على أن تضع نفسها في نفس المكان الذي وضع زوجها العظيم نفسه فيه من التضحية والجهاد من أجل الوطن، وأن السيدة صفية في هذا الموقع تعتبر نفسها أماً لكل أولئك الأبناء الذين خرجوا يواجهون الرصاص من أجل الحرية”.
ولم يكن مسكن زعيم الأمة سعد زغلول وزوجته صفية زغلول مسكنا عاديا بل كان يلقب ببيت الامة ففيه اتحدت أعلام الهلال و الصليب ضد المستعمر البريطاني و تربّى فيه الكثير من المناضلين والمفكرين السياسيين والكُتّاب أمثال “علي أمين” و”مصطفى أمين”، فاعتبرته الأمة كلها في ذلك الوقت ملتقى ومنارة للثقافة والوعي والنضال.
بعد رحيل زوجها سعد زغلول عاشت عشرين عاما لم تتخل فيها عن نشاطها الوطني لدرجة أن رئيس الوزراء وقتها “إسماعيل باشا صدقي” وجه لها إنذارا بأن تتوقف عن العمل السياسي إلا أنها لم تتوقف عن العمل الوطني بالرغم من هذه المحاولات.
في عام 1921 خلعت صفية الحجابَ لحظةَ وصولِها مع زوجها سعد زغلول إلى الإسكندرية، كانت مثقفة ثقافة فرنسية، ومنحها سعد الحرية الكاملة لثقته بها، وقيل أنها أول زوجة زعيم سياسي عربي تظهر معه سافرة الوجه دون نقاب فى المحافل العامه والصور، بل وتتسمى على الطريقة الغربية أى باسمه لا اسم عائلتها.
نعمات احمد فؤاد
من مواليد محافظة المنيا كانت أول فتاة تحصل على المركز الأول على القطر المصري في امتحانات التوجيهية أو ما يُعرف بالثانوية العامة في الوقت الحالي. وشغلت منصب مديرة للآداب والفنون ومديرة عامة للمجلس الأعلى للثقافة، ودرّست في جامعة الأزهر، وجامعة طرابلس بليبيا، وجامعة حلوان .
اقترن اسمها بقضايا أثارت خلالها العديد من المعارك دفاعًا عن مصر وحضارتها وشعبها، من أهمها قضية هضبة الأهرام وقضية دفن النفايات الذرية وقضية الدفاع عن قبة الحسين و عن الآثار الإسلامية وقضية وقضية الآثار المصرية التي استولت عليها إسرائيل أثناء احتلالها سيناء.
في 1962، حصل كتابها إلى ابنتي على جائزة أفضل كتاب في العام عن قضية الأمومة من منظمة اليونسكو.
ويقول الكاتب فاروق جويدة عن هذا الكتاب:(..موسوعة حياة رائعة، شاملة في العمق والإتساع، مكتملة في القيم والمبادئ، إجتمعت لها عناصر الخلود من بنت مصر د. نعمات أحمد فؤاد إلي كل بنات مصر وعلي مدي الأجيال .. بل أراها تعبر الحدود الجغرافية إلي آفاق الإنسانية في كل مكان)
ومن مقتطفات الكتاب :
….(ذا رات عينيك رجلا يرتاد المقهى بإصرار. فاعلمي ان الرابطة العائلية في بيته مفقودة. اعلمي ان بيته اشبه بفندق يجمعه به الاكل والنوم. وقد كان هذا حال بيوتنا في الماضي. وبعض بيوتنا في الحاضر. حيث تكون السيدة تافهة الحديث. متشابهة الايام. محدودة الآفاق قليلة الوسائل.
….(من اسباب التفاهة. الغرور. فالمغرور تنكمش الدنيا في نظره حتى تصير في حجم المرآة فلا يرى فيها الا نفسه. ثم يعميه الغرور مرة اخرى فلا يرى في صورته الا مزايا خالصة. هيهات ان يبدو معها عيب واحد وواحد فقط !
…(من عوامل التفاهة افتقاد الهدف. فالذي يعيش تائها بلا غاية. بلا رسالة. بلا هدف. انسان تافه لا يستحق الحياة. لان الحياة نعمة يجب ان يشمل خيرها الفرد والمجتمع.