القى ميلاد نبيل نجيب منقريوس باحث دكتوراة بمعهد الدراسات القبطية – جامعة الإسكندرية ورقة بحثية هامة عن ” ثورات أقباط مصر في العصر العباسي الأول “( 132-232هـــــ./ 750-847م).
وذلك ضمن مشاركتة فى القاء الثامن والعشرون لمؤتمر اصدقاء التراث العربى المسيحى والذى عقد بقاعة الصفا بالكنيسة البطرسية.
وقال فى بداية كلمتة فى الورقة البحثية: رغم عهد الأمان الذي قطعه القائد المُسلم عمرو بن العاص مع أقباط مصر حين غزاها في 21هــ/ 641م.؛ إذ أمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ولم يُكرِه أحدًا على الدخول في الإسلام. إلا أن الأقباط ظل لديهم شعورٌ دائم بأن مصر وطنهم وأرضهم وليست من حق آخر غيرهم؛ خصوصًا وأن الكثيرون من الولاة المُسلمين الذين بعث بهم الخلفاء لحُكم مصر لم يكن لديهم حُسن الإدارة والتصرف فيمَّا للأقباط من حقوق – رغم أداء أولئك الأقباط لواجباتهم – وراحوا يُميزون المُسلمين عليهم في الوظائف والمِنح بل وفي الإنسانية نفسها، مُرهقين للأقباط بأعباءٍ اقتصاديةٍ كثيرة كالجزية والضرائب وخِراج الأراضي الزراعية.
لأجل هذا كلهُ تعددت تمردات الأقباط وتفاقمت أحيانًا إلى حد نشوب ثوراتهم على الولاة المُسلمين، بدءًا من يوم غزو مصر في عهد الخليفة الراشد عُمر بن الخطاب، ومرورًا بعهود بقية ولاة مصر في عصر الخلفاء الراشدين، ثم زادت في عصر ولاة الدولة الأموية.
وفي هذه الدراسة البحثية تناول الباحث ثورات أقباط مصر في العصر العباسي الأول ( 132-232 هـــــ./ 750-847م. )، فالجدير بالذكر أن الأقباط توقعوا نوال الهدوء والاستقرار مع بدء عصر العباسيين؛ ولكن سُرعان ما عاودوا التمرد والثورة تارة مُدافعين عن حقوقهم وتارةٍ أخرى مُستضعفين حُكامهم المُسلمين.
ومن أهم هذه الثورات كما اوردها الباحث ميلاد نبيل نجيب فى الورقة البحثية كانت:
أولاً: ثورة أهل الصعيد في عهد البابا يوحنا الرابع البطريرك الــــ48:
إذ حدث أن قام رجل من بني أُمية يقطن الصعيد، ونادى بنفسه خليفة على البلاد المصرية؛ فناصره أهل الصعيد بجموعهم الحاشدة حتى أن جيش الوالي لم يستطع التغلب عليهم، ولمَّا اشتدت حدة المعارك؛ اضطر الخليفة المهدي العباسي إلى أن يُرسل قائده الفضل بن أبي صالح العباسي على رأس قوة جديدة من الجيش لقمع هذه الثورة العارمة، فتمكن من أن يتغلب على الثوار ويُعيد السلام إلى البلاد.
ثانيًا: ثورة أهل الإسكندرية في عهد البابا مرقس الثاني البطريرك الــــ49:
في أيامه استولى الأندلسيين على جزائر الروم واليونانيين وخطفوا وسبوا كثيرين من نسائهم وأولادهم وأتوا بهم إلى أسواق الإسكندرية، وشرعوا في بيعهم. هنا ثار أهل الإسكندرية على الخليفة الأمين لعدم اتخاذه أية قرارات تجاه تلك الضائقة التي لحقت بهم.
أما البابا فقد حزن كثيرًا، وراح يجمع الأموال من المؤمنين، ودفع في سبيل انقاذ الأسرى واطلاق حُريتهم، وكتب لهم صكوك عتقهم، وزود من رجع إلى بلاده منهم بالمال اللازم له، وزوج من بقي منهم، وصار يعتني بهم وببيوتهم.
ثالثًا: ثورة أهل البشمور في عهد البابا يوساب الأول البطريرك الــــ52:
في عهده ظهرت اضطرابات وقلاقل في شرقي مصر وغربها؛ إذ تولى أمر تحصيل الخراج اثنان: أحدهما اسمه أحمد بن الأسبط والآخر إبراهيم بن تميم، هذان لم يرحما الشعب المصري الذي كان غارقًا في البلايا ( الغلاء والجوع )؛ فكانا يطلبان من الناس ما لا يقدرون على سداده.
وكان مُتولِّي تحصيل الخراج يؤذي الناس، ويخص الأقباط البشموريين في شمال دلتا النيل بعذابٍ شديد. كان يأمر رجل يُدعى ( غيث ) بربطهم في الطواحين وضربهم حتى يقوموا بتشغيل الطاحونة كمثل الدواب.
ولما رأى البشموريون أنه ليس هناك مخرج من هذا العذاب، وأن البقاع التي يسكنون فيها لا يقدر العساكر أن يسلكوا إليها لكثرة الوحل والطين المُحيط بها، ولم يكن أحد يعرف الطرق السهلة إلا هم؛ بدأوا ثورة بالامتناع عن دفع الخراج، واتفقوا على ذلك. وكان الخليفة حينذاك عبد الله المأمون بن هارون الرشيد فلما بلغه – وهو في بغداد – ما حدث في مصر، أرسل إليهم عسكرًا بقيادة قائد جيشه التركي ( الأفشين ) فقتل قومًا كثيرًا من شرقي مصر إلى أن وصل إلى مدينة الإسكندرية فقتل جماعة من أراخنة الأقباط بها. وكان البشموريون قد أحكموا ثورتهم وصنعوا لأنفسهم سلاحًا، وحاربوا جنود الخليفة، واستطاعوا حماية أنفسهم من أن يدفعوا الخراج. وكان كل مَنْ يمضي إليهم ليتوسَّط بينهم وبين الخليفة المأمون يقومون عليه ويقتلوه.
وتضاعف حزن البابا يوساب الأول؛ لعلمه أن البشموريين لن يقدروا على مُقاومة الخليفة المأمون وجيشه، حتى أن البابا ظل يُراسلهم بمُكاتبات كثيرة مُقتبسًا فيها كلمات الكتاب المُقدس؛ فكان البشموريين يهينون رُسل البابا من الأساقفة وينهبون ما لهم، فحزن البابا جدًا.
ومن أجل تفاقم الأمر؛ أتى الخليفة المأمون ومعه بطريرك أنطاكية الأب ديونيسيوس إلى مصر، وبعد مُقابلتهم للبابا يوساب الأول؛ طلب الخليفة من البطريركين أن يتوجَّها إلى البشموريين الثائرين لإقناعهم بالتوقف عن عصيانهم.
وعندما لم يستجب البشموريين للبطريركان؛ عادا وأعلما المأمون بذلك، فسار بجيشه إليهم وأهلكهم وقتلهم بالسيف بغير شفقة، ونهب وخرَّب مساكنهم وأحرقها بالنار، وهدم كنائسهم. ولمَّا نظر المأمون كثرة القتلى؛ أمر العسكر أن يوقفوا السيف، وأن يؤسر مَنْ بقي منهم من الرجال والنساء إلى مدينة بغداد.
وفى نهاية الورقة البحثية استعرض الباحث ميلاد نبيل نجيب خلاصة القول: برغم أن أقباط مصر تطلعوا – مع بدء الحُكم العباسي – إلى الخلاص من الظلم والتفرقة؛ إلا أن العباسيين أنفسهم قد انتهجوا في مصر سياسة أدت إلى عدم استقرار الأوضاع فيها؛ وذلك بسبب:
1. قصر مُدة حُكم الوالي العباسي لاستبداله بآخر، خوفًا من أن تقوم بينه وبين المصريين روابط المودة، فتسول له نفسه بأن يستقل بالحُكم. هذه السياسة حتى وإن ساعدت على ترسيخ الحُكم العباسي؛ إلا أنها أضرت بالمصريين فوقعوا بين براثن أنظمة حُكم مُختلفة.
2. فرض الجزية الفادحة على الأقباط؛ مع تزامنها ومحن الجفاف والمجاعات، وانتشار الأوبئة الكثيرة في مصر.
3. ظهور بوادر الشقاق المرير بين أنصار المذهب السُني والمذهب الشيعي؛ أي ما بين مُساندي أصحاب الحُكم الفعلي وهم العباسيين، وبين مُناصري الأسرة العلوية الذين ظلوا يُنادون بوجوب حصر الخلافة في أبناء علي بن أبي طالب ( ابن عم النبي مُحمد «ص» وزوج ابنته فاطمة الزهراء ).
لهذا كله قام أقباط مصر بثورات كثيرة ضد الولاة المُسلمين في العصر العباسي الأول؛ تجاوزوا في بعضها شرعية المُطالبة بالحقوق إلى مُحاولة انتزاعها بالقوة والعنف.
ناهيكَ عن كثرة ثورات أقباط مصر في العصر العباسي الثاني ( 232-656هـــــ./ 847-1258م. )؛ زمن تصدع الحُكم العباسي وانتشار الحركات الانفصالية عنه بنشأة الدويلات المُستقلة، وكلها تصلح لموضوعات أبحاثٍ أخرى.
واختتمت الورقة البحثية بالعديد من المناقشات والمداخلات والاسئلة التى أجاب عليها الباحث ميلاد نبيل نجيب.