تعنى الوصمة لغويا “إلحاق العار” بفرد أو جماعة. وترتبط “الوصمة” أو ما يعرف بـ “الوصمة الاجتماعية” باحساس الشخص “الموصوم” بالخزى والمهانة لأن المجتمع أو البيئة المحيطة به تصنفه فى مرتبة أقل مما يعرضه للنبذ والإقصاء والتسفيه. وتتعدد أشكال ودوافع الوصمة، فقد ترتبط بأنواع معينة من الأمراض كأمراض نقص المناعة (الإيدز) والجزام وربما مرض كورونا الآن، أو الأمراض العقلية والنفسية، أو الحالة الاجتماعية كما يحدث فى وضعية الطلاق، أو الجسدية كالإعاقة، أو المهنية مثل بعض المهن وخاصة تلك التى تصنف لا أخلاقية مثل العمل فى الملاهى الليلية. وغالبا ما تكون الوصمة ذات الصلة بالحالة الاجتماعية والمهنية أكثر إرتباطا بالنساء مقارنة بالرجال. ومن الشائع الربط بين “الوصم”و”التنميط” الذى يعنى التعامل مع أفراد أو جماعات وفق صور نمطية مسبقة ومن ثم الحكم عليهم. ولا شك أن هناك علاقة مترابطة وقوية بين المفهومين، أي الوصم والتنميط، فكلاهما يرتكز على آلية تصنيف وتقييم، ولكنهما مع ذلك مختلفان، فالوصمة أكثر تعقيدا وأكثر حدة من التنميط. ولأنها ظاهرة متعددة الأبعاد ويجرى تناولها من زوايا نفسية واجتماعية مختلفة، فلا يوجد تعريف واحد لهذا للوصمة. فثمة تعريفات تركز على الشخص “المصوم” وأخرى تنطلق من عملية الوصم ذاتها. وفى هذا السياق أود استعراض كيفية تناول هذا المفهوم فى ضوء دراسة متخصصة حول المفهوم ذاته نشُرت مؤخرا فى مجلة “عُمران” عدد 31/2020 بعنوان “مفهمة الوصمة” Conceptualizing Stigma لبروس ج. لينك وجو ك.فيلان.
تنطلق هذه الدراسة من أن الوصمة يمكن فهمها من خلال تضافر أربعة مكونات، أو لنقل عمليات، أساسية وهى الوسم، والتنميط، والعزل، وفقدان المكانة والتمييز. فن ناحية أولى، تبدأ الوصمة بتحديد الاختلافات بين البشر ووسمها، وكلمة الوسم هنا ذات دلالة لأنها تعنى إلصاق علامة بالموسوم وطبعها عليه وكأنها جزء من طبيعته وتكوينه وهويته الأساسية، أو كما نقول باللغة الدارجة “التعليم على الشخص”، فالوسم أكبر من أن يكون مجرد صفة، فمثلا الشخص المصاب بانفصام الشخصية يسمى “منفصم” والمصاب بالجذام “مجذوم” على خلاف المصاب بأمراض القلب أو الكلى فهو مجرد مصاب بمرض. وبالوسم تكون بداية عملية التصنيف، أى التركيز على بعض الفروق دون غيرها واختزال الشخص الموسوم في هذا الفرق دون غيره، كأن يتم اختزال المعاق فى إعاقته، أو الشخص فى لون جلده إلخ. أما المكون أو العملية الثانية، فهى عملية تركيب الصور النمطية المسبقة على الوسم أو الشخص الموسوم، فمثلا بعد اختزال الشخص فى لونه أو مرضه أو حالته الإجتماعية يكون قد تم تجهيزه لإنزال الصور والاعتقادات النمطية المسبقة عليه. فعلى سبيل المثال قد يتم النظر إلى المريض العقلي بأنه خطر، ومع ذلك فقد يُنظر إلى المريض العقلي الأسود في على أنه أكثر خطورة من الأبيض المصاب بنفس المرض. وهذا بفعل الصور النمطية المسبقة عن أصحاب اللون الأسود كما هو الحال في الثقافات العنصرية. وتجدر الإشارة إلى أن عملية التنميط هنا هى أحد مكونات عملية الوصم المعقدة، لكنها فى الأصل عملية مستقلة، فمثلا ثمة تنميط ضد النساء، ولكن النساء لسن موصومات بأنهن نساء. وبعد وسم الشخص ووضعه في قالب نمطي، تبدأ العملية الثالثة وهى الفصل بين الـ”نحن” و الـ”هم” أو الـ”أنا” و الـ”هو”، والفصل أساسى لتفعيل وتشغيل الصورة النمطية المسبقة، وكما تقول الدراسة فإن الفصل في حالاته القصوى يجعل من الشخص “الموصوم” مختلفا إلى الحد الذي يكف معه عن أن يكون من البشر. وهكذا يكون الشخص الموصوم قد تم تجهيزه لممارسات الإقصاء والنبذ والتمييز، وهنا تكون النتيجة أو المكون الرابع، أي الحط من قدر الشخص الموصوم وحرمانه ومعاقبته على اختلافه.
إن تضافر هذه المكونات أو العمليات هى ما يشكل عملية الوصم، وهى عملية لا تكتمل إلى بوجود شرط ممارسة القوة من طرف “الواصم” ضد “الموصوم”. وبالتالى فإن التحرر من الوصم لا يكون فقط بتغيير القيم الثقافية ولكن لابد أن يرتبط هذا التغيير بتعديل موازيين القوى، وكثير من ظواهر الوصم قد تغيرت بهذا الشكل، فما كان يعد وصمة فى الماضى بات أمرا طبيعا، ونرى ذلك في المجتمعات التي باتت تحترم الاختلافات الاجتماعية والجسدية والمهنية، فلا تنظر للمرض من منظور الوصمة، ولكن من المنظور الطبى والعلمى، ولعل التحولات الكبرى التي حدثت في مجال الإعاقة خير دليل على ذلك. إن أهمية مثل هذا الفهم للوصمة تتجاوز حدود الأهمية النظرية إلى الجوانب العملية والتطبيقية، فالتعامل مع الوصمة بوصفها مجموعة من المكونات أو العمليات قد يساعد في التصدي لها بصورة منهجية من خلال برامج التوعية والتثقيف المناهضة لممارسات الإقصاء والتمييز.