الموت لا يأتي فجأة، الموت يدركنا ويتسلل إلينا زاحفاً إلى كل خلية في أجساد سلمت نفسها طوعاً أو جبراً للكفاح. الموت لا يستقر فينا بتوقف آخر شهيق ولا بخروج آخر زفير، لكنه يولد معنا وينمو داخلنا، حتى يتمكن منا بالكامل، ندركه ويدركنا، كلما استوعبتنا الحياة، واختبرناها قسوة وحناناً، يحيا معنا، واعظا ً صامتاً لنا في الضيقات، نزيلاً غير مرغوب في رؤيته في الأفراح والملذات، يسكننا وأنفاسنا لا تنفي وجوده فينا، تنسينا نعمة الصحة، ولعنة حب المال أن اللقاء معه قادم لا محالة، زاحفاً أو راكضاً أو مباغتاً، فمن له نبض حي فليشعر به ومن له ضمير يقظ فليراه ومن له أذنان للسمع فليسمع، كما قال الكتاب، قبل فوات الأوان.
الموت الذي يزحف كالرمال المتحركة ليدفن كل من تتأخر أيادينا عن مساعدته رغماً عنا وليس بإرادتنا، الموت الحاضر فينا، الذي ينبغي علينا مقاومته، وإلا صار انتحارًا إذا استسلمنا له وتركنا أجسادنا ساحة معارك ينتصر فيها المرض، فقط لأننا نعلم مسبقاً بهزيمة الجسد في معركته معه، كل هذه الحقائق تجذب الأغلبية العظمى من البشر نحو الحياة، والكفاح، واستثمار كل لحظة في العمر للسعي والإنجاز وتحقيق الرسالة، وليس للتوقف أو الانتظار.
ضمن الذين صدقوا وآمنوا بالحياة للنفس الأخير العم ”عزيز” كان مندوباً للمبيعات في إحدى شركات التجميل العالمية، الحال متيسر جداً، والرزق وفير، والبيت مستور، متزوج ولديه إبنة عمرها40 سنة، وإبن 32 سنة، والثالث 26 سنة، أما زوجته فربة منزل، عمرها حاليا 60 سنة. لم يتوقف الرجل العنيد عن كفاحه لتأمين مستقبل أبنائه، بوظيفته، بل قرر ترك الشركة والتجارة لحسابه الشخصي، كان تاجراً ماهراً استطاع بمهارته الوفاء بواجباته الأسرية، فزوج الإبنة الكبري والإبن الأوسط، ثم بدأت حالته الصحية في التراجع وفي عام2007م أصابت القلب الصلب رخاوة لم يعهدها، فتم نقله للمستشفى إثر جلطة بالقلب بعدها أجرى عملية تركيب دعامات بالقلب، ومع العلاج الشهري والتوقف عن العمل تراجع الدخل وضاق الحال لكنه ظل مستوراً حتى أتم تعليم ولده الأصغر.
عاد القلب الصلب للانصهار مرة أخرى بعد سنوات المكابرة نداً لند مع المرض الذي لاند له حيث يختفي الشباب ويحل الشيب في خلايانا قبل رؤوسنا مهما قاومناه، ففي عام 2017م اضطرته حالته الصحية لتركيب ثلاث دعامات جديدة لشرايين سدتها هموم الأيام لكن هذه المرة لم يكن لديه ما ينفقه ليحتفظ بصلابة قلبه، فلجأ إلى الكنيسة طالباً العون، بعد أن كان هو من يمد يد العون للمحتاجين ، وأجرى الجراحة على نفقة الكنيسة في مستشفى فريد حبيب، ومن مستشفي لمستشفي ترنح القلب المأزوم عدة مرات، حتى استقرت حالته نسبياً بعد عامين، صار خلالها بلا أي غطاء مادي، فتعلقت حروف اسمه بكشوف إخوة الرب ليتلقى المساعدة الشهرية بعد أن كان مساهماً معطاء لهم. إنها دورة الزمن الغادر، فإبنته متزوجة ولديها ثلاثة أبناء ولا تعمل وليس لدى زوجها ما يساعد به، وإبنه الأكبر كان يعمل سائقاً وتعرض لحادث أقعده عن العمل والإبن الأصغر يعمل سائق توك توك، بالكاد يجمع إيجار السكن وقيمة فواتير الكهرباء والغاز والمياه.
وعاد المدمن الجسور لإدمانة مرة أخرى، نعم فالعمل إدمان ومن أدمن الكفاح لايمله، لذلك عاد العم ”عزيز ” إلى سابق عهده مندوباً للمبيعات، في ذات المجال لكن حينما يدير الحظ ظهره لنا لا يمنحنا فرصة لمطالعة وجهه مرة أخرى، بسهولة خرج الرجل حاملاً بضاعة قيمتها خمسين ألف جنيه وسيولة ثلاثة آلاف جنيه، ليقوم بتوزيعها في منطقة حدائق الأهرام وهناك حدث ما حدث.
كان ذلك في منتصف عام 2019م لم يعرف الرجل ماذا يفعل سوى تحرير محضر، وتحمل مسئولية ما جرى لكن من أين له سداد ما ضاع وماذا يفعل معه صحاب البضاعة؟ جميعها أسئلة جاء رجل السبعينات ذو الحظ العثر ليضعها أمام باب “افتح قلبك ” حينها تعجبت من روايته وسألته.. ماذا يريد تحديداً فنحن لسنا جهة قروض ولا سداد ديون فأجاب قائلا: أنت فهمتيني غلط أنا مش عايز أسدد الديون، أنا عايز بس أعيش، مش عارف أعيش ولا حد مساعدني – إيصال الغاز 197 جنيه, وايصال النور95 جنيه, والإيجار 250 جنيه, العلاج 100 جنيه, وشهريتي من الكنيسة 200 جنيه – أجيب منين الدنيا ذلتني بعد العز، بأعاتب ربنا وأنا عارف رحمته، تعبت من المسئولية حتى وأنا عيان، وتعبت من قلبي المريض إللي ذلني في آخر أيامي، ربنا ياخدني ويريحني مش عارف ليه سايبني أتعذب بمواجعي؟
لم يكن في الإمكان إلا مساعدة في أضيق الحدود لحين إجراء بحث الحالة وذهب عم ”عزيز ” ولم يعد وأجرينا بحث الحالة وغاب الرجل غياباً طويلاً ولم يسأل عن نتيجة البحث فظننا أنه وجد باباً آخر للمساعدة، وحرصاً منا على متابعة الحالة اتصلنا به تليفونياً.. حينها اكتشفنا أنه غاب للأبد واستجاب الله لطلبته ، رحل الرجل والتقى بالموت الساكن فيه حاملاً معه الشقاء والمواجع واضعاً نهاية لشعور المذلة بعد حياة العز، لكنه ترك زوجة مختوم على قلبها بختم الاحتياج مرفوع في وجهها لافتة طلبك مرفوض من الأبناء من المحيطين وليس لديها سوى 200 جنيه شهرية الكنيسة فمن أين لها توفير المقومات الأساسية للحياة؟ مات عم “عزيز” ولم يقصر تجاهها لكن غلبته الأقدار فلم يترك لها ما يستر شبيبها،في آخر الأيام التقينا بها وبقينا فأن شيخوختها تستحق الحنو قبل فوات الأوان، لسنا في معرض للندم على ما تأخرنا عليه مع زوجها لكننا نلهث للحاق بستر ما تبقى من أيامها.