صراخ وعويل, ما بين أم تبحث عن ولدها, وأب يحاول انقاذ ابنته, وشاب يجلب أمه من بركة مياه عميقة وقد لفظت أنفاسها, ومنازل, وممتلكات جرفتها المياه, وانهارت بالكامل, بسبب انخفاض الأبنية, التي جرفتها السيول لهشاشتها, لم يكن ذلك حال الزرايب فقط, ولم تكن منطقة الزرايب في 15 مايو بالقاهرة الكبري فقط, هي التي تضررت جراء السيول, التي ضربت مصر الأسبوع الماضي, تحت اسم اعصار التنين, وإنما كافة المناطق المنخفضة بالعشوائيات, والتي تراكمت فيها المياه, ولا توجد بها قنوات تصريف كافية, وللأسف هذه المناطق هي التي يسكنها الغلابة فقط.. فها نحن أمام عشرات الحالات من المترددين علي باب افتح قلبك, وقد انهارت أسقف منازلهم علي رءوسهم في منطقة روض الفرج, واشتعلت النيران في منازلهم, بسبب تسرب المياه إلي لوحات الكهرباء وبأيادي خاوية يواجهون البلادء, والفناء, فبعد أن ضربهم التنين وخلف منتزلهم خرابا, والبعض وجد أسرته في عداد المشردين, والبعض ينتظر من يح عليه ليعيد له بناء سقف منزله, يواجهون الآن الجوع والمرض, بسبب أنهم مجرد أرزقية يعيشون اليوم بيومه.
خرجوا من قبضة التنين, ليجدوا أنفسهم محاصرين بالفرع من جائحة كورونا, والجائحة درجة أعلي من الوباء, أعلنتها منظمة الصحة العالمية مؤخرا, وها هم عليهم الإلتزام بعدم الخروج أو التواجد في الأزدحام, وعليهم أيضا ارتداء كمامات الواحد منها ـ إن وجدت ـ فسعرها لعدد أفراد الأسرة يفوق دخلهم الأسبوعي, هذا إن استمر الدخل في التدفق, ومع تزايد اتخاذ الإجراءات الصارمة للحد من انتشار الفيروس الخبيث, سيلتزم الجميع بمنازلهم, فماذا يفعل أولئك الذين صاروا بلا منازل وفتحت الكنائس والمساجد أبوابها أمامهم؟
لا يمكن الاستمرار هكذا في ظل منع التجمعات للحد من انتشار الوباء, فماذا ستفعل الحكومة التي أعلنت أنها خلال عام سوف تبني مدينة سكنية, لسكان الزرايب؟ ماذا ستفعل الآن؟ هل تترك تلك الأعداد الهائلة التي احتمت في كنيسة الأنبا شنودة بالزرايب كما هم, يقيمون في تجمعات ستمثل عاجلا أو آجلا بؤرة لـكورونا؟
لن يمهلهم كورونا عاماحتي الانتهاء من المدينة السكنية. لابد من حلول أسرع, وأكثر فعالية, سواء علي المستوي الحكومي أو علي مستوي تضافر الجهود الأهلية, والدفع في اتجاه التكافل, ليساعد من يملك من لا يملك.
هنا فوق هذه المساحة نحن مجرد بوق لاستغاثات البسطاء, الذين لا يجدون لصرخاتهم منفذا سوانا, لأنهم أبسط حتي من أن يجدوا منفذا, حدثتني امرأة مستغيثة بي: مش عارفة أعمل أيه, عندي تسع عيال, وأنا وأبوهم, الكمامات أمرها سهل احنا نعملها من أي قماش قديم!! لكن نجيب منين الكلور ولا الكحول, ولا أي حاجة من إللي بيقولوا عليها, علشان نطهر المكان, المنظفات كلها ـ لو لقيناها ـ أسعارها بقت نار, ونطهر بيوتنا أزاي أصلا؟ ده احنا لسه موحولين لغاية دلوقت في آثار السبيل, إللي اتحول من ميه لطين, والميه غالبا مقطوعة طول الوقت, يعني كده كده أحنا في مرض.
وأخري تقول: كنت ببيع مكرونة الطبق بتلاتة جنيه, كل يوم أنزل وأرجع بالمكرونة, من ساعة موضوع كورونا, الناس بقت خايفة ماحدث راضي يشتري مني, أكل عيشي اتقطع. مش عارفة أعمل أيه؟
وثالثة تقول: أنا أرملة, وعندي ولدين, كنت باشتغل في حضانة باليومية, طبعا الحضانات اتقفلت, وماعتدقش أنها هاتتفتح قريب, وحاليا لا في يومية ولا شهرية, بعد ما كنت باخد يوميتي والبقشيش من أهالي الأطفال, دولقت أنا وولادي مش عارفين هانعيش إزاي!
وغيرهم بالمئات, ممن يعملون بدون أجر ثابت في قطاعات تم إيقافها, لن يجدوا قوتهم اليومي, وإذا حاولوا سوف يمثلون بؤرا للعدوي, إنها معركة الحياة مع الطبيعة حينماغ تكشر عن أنيابها, فتقذفنا بالتنين, ثم بالأمراض المميتة.. معركة ما بين أن تحيا صحيحا, أو تموت من الجوع, وربما تموت من المرض والوجوع معا, معركة ليس بها منتصر ولا مهزوم. كلنا فيها مهزومون, بقلة الحيلة ولا أحد يعلم بأي وجه ستطل علينا الأيام القادمة. لكن المؤكد أنها ستطل علينا جميعا بوجه واحد لذلك علينا أن نتكافل.
الغلابة يئنون لأنهم لا يملكون تكلفة العيش اليومي, في حين يخزن البعض السلع بآلاف الجنيهات خشية فرض حظر تجوال, إنهم يؤمنون بطون ذويهم ضد الجوع, لكن أبناء الفقراء سيحوعون في اليوم الأول, لأنهم لا يملكون القوت اليومي, لذلك لابد من تكافل كافة شرائح المجتمع, وإلا سيموت الفقراء أولا وبدون كورونا, سيموتون جوعا, لأنهم الأقل قدرة علي مواجهة تلك الكوارث.
الغلابة.. هم الضحية الأولي دائما لكل كارثة, هم الذين يتحملون التكلفة الباهظة في زمن الاستثناءات, نعم ففي كل كارثة يقول المسئولون إنها استثناء وليس قاعدة, هل نذكر تصريحات المسئولين في العام الماضي عن تهالك شبكات الصرف الصحي, واعمدة الإنارة؟ نعم نذكرها, كانت فحواها أن تكلفة إعادة تقويم البني التحتية عالية جدا مقارنة بأن السيول مجرد أحداث استثنائية طارئة!! إنه زمن الاستثناءات التي تعتبر المال أغلي من البشر, زمن تتضاءل فيه قيمة الحياة مادامت للفقراء والمعدمين, الذين لا حول لهم ولا قوة.
الغلابة.. التنين خلفهم, وكورونا أمامهم, التنين, ذلك السيل الذي ابتلع منازلهم في الزرايب, وهدم اسقفها فوق رءوسهم في روض الفرج , وغيرها من الأماكن, لأن معظم هذه المنازل مبنية عشوائيا وبغير مواصفات منضبطة. وكورونا, ذلك الفيروس الذي يحاصر العالم كله, ولا يفرق بين الأثرياء والمعدمين, ولا بين أصحاب المناصب, والصعاليك, فها هو المال في إيطاليا وإيران وأمريكا, مكدسا في البنوك والناس لا تستطيع الاستمتاع به, ولا حتي استخدامه في العلاج للاستشفاء, بعدما انهارت الأنظمة الصحية في معظم الدول الموبوءة, وصارت المشافي غير قادرة علي استيعاب أعداد المصابين, وتحول الأطباء إلي آلات فرز, يفرزون حالات المصابين, فيتركون الأسوأ للموت, ويجتهدون مع من يحمل جسده مؤشرات الأمل في الشفاء.
في إنجيل متي (اصحام 25) قسم الرب البشرية إلي قسمين, قسم يقوم بعمل الخير لأخيه وسريع العطاء في خدمة صالحة وحب مجاني, وقسم آخر لا يفعل حينما قال جعت فلم تطعموني. عطشت فلم تسقوني. كنت غريبا فلم تأووني. عريانا فلم تكسوني. مريضا ومحبوسا فلم تزوروني. حينئذ يجيبونه هم أيضا قاذلين: يارب, متي رأيناك جائعا أو عطشانا أو غريبا أو عريانا أو مريضا أو محبوسا ولم نخدمك؟ فيجيبهم قالا: الحق أقول لكم: بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر, فبي لم تفعلوا.
يدعونا الله لحياة الشركة, لذلك يوجه باب افتح قلبك, الدعوة لهذه الشركة, التي تشبع المحتاجين في كل أحوالهم, فكلما ضاق الحال, واضطربت الأحوال, وانتشر الوباء, وعم الغلاء وهددنا الفناء, كلما ارتفعت صرخات الاستنجاد, التي زثق كل الثقة أنه ستنفذ إلي قلوبكم, وعقولكم, وتقدماتكم.