يبهرني سلوك الصرصار إبهارا مميزا ـ يملك طابعا خاصا ـ فغباؤه الموروث أبا عن جد… وإصراره علي هذا الغباء.. بل ووفاؤه والتزامه به ينبغي التوقف عندهم بعض الوقت والتأمل الجيد في مغزاهم.
لطالما آمنت أن لكل إنسان علي وجه الأرض صفة سائدة موجودة في أحد الكائنات الحية… فقد تكون الجسارة والشجاعة كالأسد, أو الرشاقة كالغزال, أو النبالة والفروسية كالفرس الأصيل, أو الخيلاء كالطاووس, أو الوفاء كالكلب, أو الوداعة كالحمام, أو الجمال كالزهور… أو… أو…
وأما عن الغباء والجهالة والحماقة فل أجد أبلغ من الصرصار تنجلي فيه تلك الصفات بصورة صادمة. سلوك الصرصار المثير للسخرية الممزوجة بالشفقة يؤكد دوما بطلان نظرية دارون لتطور الكائنات الحية والارتقاء بالسلالات…
أتذكر ـ وأنا في مقتبل حياتي الجامعية ـ كان مطلوبا منا إجادة تشريح الصرصار إجادة تامة.. فما كان مني إلا أن اشتريت بعضا منهم ـ من المسئول عن بيعهم بالجامعة ـ فأحكم إغلاق برطمان من الزجاج بغطاء به ثقوب تكفل لهم الهواء الذي يبقيهم علي قيد الحياة لحين انتهائي من عملية التشريح المقززة.
وفي مساء ذلك اليوم.. وما إن حان الموعد المرتقب.. لملمت نفسي واندلفت صوب حجرة المكتب.. ارتديت معطفي الأبيض وقفازاتي البلاستيكية المطاطة.. وأخذت أرتب أمامي أدوات التشريح بطريقة جمالية وكأنني أعد مائدة عشاء فخيمة لضيوف أعزاء.
وعندما انتهيت من كل الاستعدادات والإعدادات.. هممت لاستقبال الضيف المأسوف علي أمره وعمره, فمددت يدي برفق صوب البرطمان الزجاجي أتناوله بحرص وأفتحه بترو فأسمح لزائر واحد بالخروج ليستقبل المصير الذي ينتظره.
وبينما أنا في حرص من أمري.. أمرر صرصارا واحدا من الفوهة, إذ برفيق له في هذا المحبس يغافلني ويختلس طريقا إلي الخارج ليسقط علي أرض الغرفة. وكانت أرض الغرفة مغطاة بسجادة شيرازي من أفخر وأرقي السجاد في العالم… وياللعجب! فما إن سقط فوقها هرع وفزع وكأنه سقط فوق شوك لا يقوي علي تحمل ألمه وقسوته.
وإذ بذلك الغبي ـ وفي لمح البصر ـ تدب فيه قوة ونشاط وهمة عجيبة, بعد أن كان خائر القوي هزيلا يتأرجح داخل البرطمان الزجاجي… فيجري بسرعة رهيبة مبتعدا عن الدفء والنظافة والقيمة. تركت كل شيء خلفي, بعد أن أمنت بقية أقرانه الأغبياء وأحكمت الغطاء عليهم ونهضت أركض وراءه لأري ما سيقوده إليه غباؤه…
باحترافية عالية, أخذ طريقه مسرعا متوجها إلي حمام صغير ملحق بغرفة المكتب… ودخل من أوسع الأبواب بثقة وكأنه أحد أفراد الأسرة.. يعرف مداخل ومخارج المنزل ويحفظ مكان كل شيء.. واستمر في خطواته الواثقة متجها بهمة صوب البالوعة حيث سقط فيها واستقر علي ظهره بجانب زميل له كان قد سبقه وكان مثله مستلقيا علي ظهره, الفارق الوحيد أنه كان بالفعل قد فارق الحياة… أما صديقي الغبي… فقد كان فقط في انتظار لحظة نهايته الحتمية.
ضحكت ودمعة تترقرق في عيني… حين تذكرت كم من البشر قد يزدري الدفء والقيمة والحب والاحتواء… لا لشيء إلا لأنه منح فقط من كريم إلي لئيم بكرم وسخاء… بحب وصدق… بأمانة وإخلاص… بوحدة وتوحد… فحقا.. إن أكرمت الكريم ملكته وإن أكرمت اللئيم تمرد.. إنها سنة الحياة… فلا تطلب ماهو غال من رخيص… ولا وفاء من خائن… ولا حبا من شرير… ولا صدقا من كاذب… ولا ذكاء من غبي… لا تحزن منه بل احزن عليه… فيكفيك منظره وهو ملقي علي ظهره في أقذر مكان يتعجل الموت عساه يرتاح بعد أن كانت أجمل حياة بين يديه وازدراها….