ألقى الدكتور إسحق إبراهيم عجبان عميد معهد الدرسات القبطية، محاضرة هامة عن المخزون الحضاري للشخصية المصرية، ضمن فعاليات يوم التراث القبطي السنوي الخامس والذي عقد ببيت السناري برعاية مركز الدرسات القبطية بمكتبة الاسكندرية برئاسة الدكتور لؤى محمود وحضور ممثلي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية، وعدد من الشخصيات العامة من رجال الآثار والسياحة وأساتذة الجامعات والباحثين في التراث والتاريخ والفنون والثقافة القبطية وكانت المحاضرة ضمن الجلسة الاولى والتى ادارها نيافة الانبا مارتيروس اسقف شرق السكة الحديد.
في البداية استعرض الدكتور اسحق ابراهيم عجبان سمات الحضارة المصرية وسمات الشخصية المصرية
فقال عن سمات الحضارة المصرية
أن الحضارة المصرية لها ما يسمى بالسبق الحضاري ، إذ أنها سبقت غيرها من شعـوب الارض بحضارتها ومدنيتها .. وأن حضارات مصر تبدأ بحضارات ما قبل التاريخ، وتقسم مرحلة ما قبل الأسرات عموما إلى عصور حضارية، تسمى كل واحدة منها حسب المكان الذي وجدت فيه ، مثل عصور حضارة الفيوم، حضارة دير تاسا، وحضارة البداري ، وحضارات نقادة الأولي والثانية والثالثة ، وكثير غيرها. أي أنه في مرحلة ما قبل الأسرات قسموا التاريخ باسماء الحضارات .. وبعد ذلك قسموه بالأسرات .. ثم تأتي الحضارة المصرية القديمة علي ضفاف نهر النيل بكل مكوناتها وعناصرها وانجازاتها الرائدة، وتضمنت إنجازات قدماء المصريين في تقنيات البناء التي اسهمت فى بناء الأهرامات الضخمة، والمعابد، والمسلات، واستغلال المحاجر والمناجم، بالإضافة لعلوم الرياضيات والطب والفلك والعمارة، وأنظمة الري، وتقنيات الإنتاج الزراعي، وصناعة المعادن، وصناعة السفن، وصناعات أخرى متعددة، وفنون النحت والنقش والتصوير والرسم، وأنواع متعددة من الأداب والفنون، وأثرت مظاهر الحضارة المصرية على نطاق واسع في العالم، ونقلت آثارها إلى انحاء متفرقة من العالم. وأبهرت آثار وانجازات حضارتهم ألباب العلماء والرحالة والكتاب لعدة قرون، وأثارت اهتمامهم وولعهم، وأدت الاكتشافات الأثرية في مطلع العصر الحديث إلى ظهور مؤلفات وأبحاث علمية عن انجازات الحضارة المصرية تبلورت في ظهور علم حديث أطلق عليه “علم المصريات”، مما أضفى مزيداً من الاهتمام والتخصص لتراث مصر الحضارى والثقافي .
وعن القيم والمبادى فى حياة المصرى القديم اكد الدكتور اسحق عجبان ان مصر منذ فجر التاريخ هى فجر الضمير حيث أدرك المصري القديم أن حضارة بلا قيم هي بناء أجوف لا قيمة له؛ لذلك سعى إلى وضع مجموعة من القيم والمبادئ التي تحكم إطار حياته. وقد تجلى حرص المصري القديم على إبراز أهمية القيم في حياته اليومية؛ فكان أهم ما في وصية الأب قبل وفاته الجانب الأخلاقي، ونجد الكثير من حكمائهم يقدمون الوصايا لابنائهم عن أهمية العدل والتقوى والسلام والتسامح. كذلك أيضًا كانوا يحرصون على توضيح خلود تلك القيم والمبادئ في عالم ما بعد الموت. واشتهر المصريون بالفطنة والحكمة.
وعن موقع مصر كمكان اضاف الدكتور اسحق عجبان
تمثل مصرعبقرية المكان والانسان معاً ..فابمصر تلتقي قارتان (أفريقيا وآسيا) وتقترب منها ثالثة،(أوروبا) .. وتمتاز مصر بـ «الموقع المركزيِّ المتوسط» في قلب العالم القديم، كما تُعدُّ مصـر حجر الزاوية بين القارات والبحار في العالم القديم، وتتوسَّط أيضاً (القلب المعمور والفعَّال من العالم القديم) .. ومن يتأمل فى حركة التبادل الثقافي والتجارى في العالم القديم، والحملات العسكرية، والرحلات والأسفار منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث، يدرك أن مصر هي البوابة الأمثل من آسيا لكلّ من أفريقيا وأوروبا، ومن أوروبا لكلّ من آسيا وأفريقيا، ومن أفريقيا لكلّ من آسيا وأوروبا. وتاريخياً كان لمصر دائمًا دورها كوسيط حضاري وجغرافي وثقافى وتجارى. وأن مصر هبة النيل وهبة المصريين : هي هبة النيل طبيعياً وهبة المصريين حضارياً، فنهر النيل هو مصدر الحياة، وسر استمرار الحضارة على أرض مصر، وإضافة لدور نهر النيل في توفير الماء والطمي، له أيضاً دوره السياسي شديد القدم في توحيد الأراضي المصرية تحت نظام حاكم واحد، فقد كان له دورا كبيرا في حركة النقل التجاري والعسكرى أيضاً .كانت بيئة نهر النيل هي المادة الخام، والإنسان المصري هو الصانع، فالبيئة المصرية الأولى كان بها كثير من المستنقعات والبرك والأدغال والنباتات والحيوانات البرية .. وكان علي المصريين أن يغيروا هذا كله بالجهد الشاق، والعمل الجماعي المضني والمتواصل لتطهير تلك البيئة، وشق المصارف والترع، ومجابهة أخطار الفيضان أو الجفاف وضبط النهر.. وتميزت مصر ايضاً بالاستمرارية الحضارية دون انقطاع ولكن مع التنوع الحضاري والثقافي، وكلها حلقات متصلة مع بعضها البعض ..
وعن المخزون الحضارى بمصر اوضح الدكتور اسحق عجبان انة
نتيجة وجود سجل تاريخي موغل في القدم ، ونتيجة الاستمرارية الحضارية دون انقطاع حدث ما يسمى بالتراكم الحضاري .. حضارات نشأت وازدهرت ثم انكمشت أو تداخلت مع غيرها من الحضارات أو امتدت تأثيرتها في غيرها من الحضارات . فالشخصية المصرية لها مخزون حضاري وثقافي متراكم ومتميز ومتفرد .. هذا المخزون الحضاري يكون طبقات من الحضارات متراصة فوق بعضها البعض كأنها رقائق حضارة .. أو أعمدة حضارية .. مصر تعتبر بوتقة للحضارات المتعاقبة عليها. وقد أثر ذلك التراكم الحضاري عـلى شخصية شعبها الفريدة التي جعلته متميزا عن سائر شعوب الأرض. كما أن شعبها شعب متماسك لا يعرف العرقيات والأثنيات، أما عن الأعمدة التي تؤثر في الشخصية المصرية فهي سبعة أعمدة منها أربعة أعمدة من التاريخ وثلاثة من الجغرافيا، فمن الناحية التاريخية تأثرت الشخصية المصرية بأربعة رقائق متتالية من الحضارات التي عاصرتها مصر والتي تتمثل في الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية) بمراحلها المختلفة، وما تلاها من
الحضارة اليونانية – الرومانية، ثم الحضارة القبطية، ثم الحضارة الإسلامية، أما من الناحية الجغرافية فمصر لها انتماء عربي فهى قلب العالم العربى، ولها انتماء لدول حوض البحر المتوسط، وانتماء أفريقي فهى حجر الزاوية قى أفريقيا. وهذا المزيج الفريد جعل من الشخصية المصرية شخصية فريدة لها خصائصها التي تميزها .. هذه الطبقات من الحضارات أو الاعمدة حضارية كونت نسيج حضاري متعـدد الثقافات.. مما يؤدي إلي ترسيخ التسامح الحضاري وليس صدام الحضارات .. التسامح الحضاري والثقافي هو الذي يعمق جذورنا ، ويعمق هويتنا الحضارية والثقافية، ويمثل ارضية للتعايش السلمي المشترك ، ويعطي ثراءاً ثقافيا وحضارياً في كل جوانب حياتنا الثقافية والعلمية والاجتماعية .. كل هذا يؤدي إلي مخزون حضاري وثقافي متفرد داخل الشخصية المصرية وداخل الوجدان المصري
وعنهوية الشخصية المصرية اضاف الدكتوراسحق عجبان
أن مصر بما لها من سبق حضاري وعراقة في التاريخ فأن الشخصية المصرية هى شخصية لها جذور راسخة فى عمق التاريخ، مما يمنحها هوية عريقة فى الزمن، وعميقة الجذور، ويعطي الشخصية المصرية هوية راسخة .. ويعطيها صلابة، وثبات، ورسوخ. وأن إرادة المصريين هي ارادة صلبة لا تنكسر ولا تلين، ارادة شعب صنع حضارة وتاريخ .. شعب له سبق حضاري وانجاز حضاري .. وارادة الشعب المصري تظهر في كثير من احداث التاريخ، في الحروب والانتصارات وفي تجاوز الانتكاسات، شخصية لديها صبر واحتمال .. وقد تعلم النبى موسى الكثير من حكمة المصريين، وكان العالم القديم ينهل من معرفة قدماء المصريين وحكمتهم وفلسفتهم، وقد جاء عدد ليس بقليل من فلاسفة اليونان إلى مصر من أجل التعلم من حكمة المصريين، وللمصريين القدماء كتابات وأقوال وحكم ومأثورات تدل على حكمتهم وفطنتهم.
وحدد الدكتور اسحق عجبان مميزات الشخصية المصرية بانها تمتاز أيضاً بالسماحة والبساطة والعطاء ، تمثلاً بنهر النيل والبيئة الزراعية ، واعتماداً على مياه النيل اهتم المصرى القديم بالإنتاج الزراعى وبخاصة زراعة المحاصيل والبقول والخضروات والفواكه، كما اهتم بالزهور ونباتات الزينة والنباتات الأخرى، وجعل من زهرة) اللوتس (شعاراً لمصر العـليا، ومن (نبات البردي (شعاراً لمصر السفلى. هذه البيئة الزراعية جعلت من شخصيته شخصية تتميز بالسماحة والبساطة والسخاء فى الكرم والعطاء.. كذلك تميزت الشخصية المصرية منذ القدم بقيم العمل والإنتاج، بما تشمله من جدية وجودة وإتقان وتفانى وإخلاص، ولهذا حقق المصريون إنجازات حضارية عظيمة تضمنت تقنيات البناء التي اسهمت فى بناء الأهرامات الضخمة، والمعابد، والمسلات، واستخدام المحاجر والمناجم، بالإضافة لعلوم الرياضيات والطب والفلك والعمارة، وأنظمة الري، وتقنيات الإنتاج الزراعي، وصناعة المعادن، وصناعة السفن، وصناعات أخرى متعددة، وفنون النحت والنقش والتصوير والرسم، وأنواع متعددة من الأداب والعلوم والفنون. ولقد أدرك الشعب المصرى منذ فجر التاريخ أن السعى والعمل بجد واجتهاد فى تكاتف وتعاون واتحاد هو أساس التقدم والرقى، فاتحدت القرى والمدن وتكونت باتحادها وحدات ادارية اكبر عرفت بالأقاليم، وفي حوالى سنة 3200 ق. م ظهر في مدينة طيبة (الأقصر حالياً) ملكا يسمى نارمر “مينا”، ونجح في توحيد شطري البلاد (مملكتي الشمال والجنوب) في مملكة واحدة وبذلك أسس أول أسرة حاكمة في تاريخ مصر القديم. وكانت وحدة الوطن والأرض والشعب هى الإنجاز التاريخى الذى حققه الشعب المصرى العظيم منذ عصور ما قبل التاريخ، وحافظ عليه، ودافع عنه على مدى القرون، وهذا الانجاز يحتاج إلى استمرار الجهود للمحافظة عليه.. ويبرز عنصر التدين كعنصر فاعل وأساسي وشديد الأهمية فى الشخصية المصرية، ومنظومة القــيم الدينيــة كانــت ومازالــت وســتظل هى محــور النســق القيمـى فــى المجتمع المصـرى، حيث كان للدين دوراً كبيراً فى حياة المصريين سواء فى العصور المصرية القديمة أو فى العصر المسيحى أو فى العصر الإسلامى .. وعندما تأتي تيارات وافدة من خارج الوطن، لكي تحاول أن تزرع بذورا النزاعات بين أفراد المجتمع الواحد، فأن المجتمع المصرى الواعي يتغلب عليها ليكمل مسيرته التعددية التعايشية المتسامحة كما كانت دائماً.
و اكد الدكتور اسحق عجبان على قيم الولاء والانتماء للوطن
بأن انتماء الإنسان إلى وطنه هو انتماء يشمل كل الأمور التي تخص الوطن، فالوطن ليس حيزًا جغرافيًّا نعيش به فحسب، بل أكبر وأشمل من ذلك بكثير؛ فالوطن هو تاريخ الانسان، وجذوره، وأسلافه، ومخزونه الثقافي والحضارى، وكل ما يَمُتُّ إلي الوطن بصلة. ومن مضامين الانتماء والولاء للوطن قيمة الاعتزاز والفخر بالانتساب لهذا الوطن. وقيم الوطنية والمواطنة، والوحدة الوطنية، والاندماج الوطنى والمحبة الوطنية. ومنذ القديم أدرك المصريون أهمية بناء ومد جسور الحوار والتفاهم والتواصل والتبادل الثقافى والمعرفى بين الثقافات، والحضارات، والأديان، وترسيخ قيم الحوار، والانفتاح بين الشعوب والحضارات والثقافات، ونشر روح التسامح والاعتدال والوسطية، ومواجهة فكر التعصب، والانغلاق الفكرى، والتطرف الطائفى، والجمود العـقـلى. وتميزت شخصية المصريين بالاعتدال والوسطية، وبحكم الاعتدال فالانسان المصري يميل للشخصية الاجتماعية المنطلقة غير المنغلقة، كما أنه يميل للتعاون أكثر منه للتنافس، ومن الاعتدال إلى الواقعية، فقد علمته البيئة والتجربة أي الجغرافيا والتاريخ احترام الواقع وعدم الانفصال عنه أو التناقض معه، فكان التوسط والاعتدال سمة بارزة في الشخصية المصرية وبالتالي في شخصية مصر الحضارية. ولقد كانت الوسطية هي الكلمة المفتاحية في شخصية مصر الحضارية، فكانت كل هذه الحضارات والثقافات بتأثيرات التاريخ والجغرافيا تتفاعل معاً بروح السماحة والتسامح الذي تتميز به الشخصية المصرية، والانسان المصري منذ القديم ادرك أن التسامح ضرورة حياة، كما أن المصريين لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الظروف، ويبدو أن هذه القدرة اكتسبوها من تاريخهم الطويل فى التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات، وتغير الظروف والأحوال التى يعيشون تحت وطأتها، فلديهم مرونة كبيرة فى التعامل، ولديهم قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه، ولديهم صبر طويل على تحمل الظروف الضاغطة. ويستطيع أن يتقبل ويساير كل تغيير، ويتعامل مع كل جديد دون ارتباك أو حيرة.
واشار الدكتور اسحق عجبان لابرز سمات المجتمع المصرى وهو الاستقرار النسبى
فهو أحد اهم سمات المجتمع المصرى عبر تاريخه الطويل مقارنة بمجتمعات أخرى محيطة به، فالمصرى يميل إلى استقرار الأوضاع طلباً فى الأمن والأمان، وبقاءاً للقمة العيش، ولا يميل للعنف ولا للتغيير السريع، وهذا الميل للاستقرار يجعل المجتمع المصرى عصياً على التفكك أو التناحر تحت مطارق الأزمات أو الإنشقاقات، فهو غالبا ما يعود سريعاً إلى ترابطه وتكافله وتضامنه. وهناك مفكرين مصريين كتبوا كثيراُ عن شخصية مصر الحضارية : منهم الدكتور جمال حمدان في كتابه “شخصية مصر عبقرية المكان” والدكتور ميلاد حنا في كتابه “الأعمدة السبعة للشخصية المصرية” ..
وهذا الثراء الحضارى والمخزون الحضاري والثقافي ، يدل بوضوح عـلى إرادة شـعـب صـنع تاريخـاً مجيداً وحضارة عريقة، وبالتالى فهو قـادر علـى مواجهة تحديات الحاضر، وبنـاء مسـتقبله المشرق بمشيئة الله