إن تاريخ الصراع والحروب مع الأوبئة ضارب في عمق التاريخ، ويمكن القول أن لا شئ يفوق مآسى الحروب مثل المآسي والهزائم التي ألحقتها الكائنات الدقيقة من بكتيريا وفيروسات وطفيليات بالبشر، وبالمقابل لم تكن هناك انتصارات مستدامة للبشر مثل تلك التي حسم فيها البشر معاركهم مع الأوبئة بكشفها وتطوير اللقاحات التى تقيهم شرورها. ومن الأوبئة ما كانت هزيمته نهائية وإلى الأبد مثلما حدث مع الجدري القاتل. والفضل في الانتصار كان دائما للعلم وإعمال العمل، فالانتصار على الأوبئة كان ولا يزال النموذج الأمثل لانتصار العالم على الخرافة. وفي هذا السياق يحدثنا الدكتور حسن فريد أبو غزالة في كتابه “أمراض لها تاريخ: قراءة مرضية في سفر التاريخ”، عن قصص الأوبئة التى اجتاحت العالم وتاريخها المرعب والحزين، عندما كانت تحصد الأرواح كالسيول الجارفة. والأوبئة كثيرة في مقدمتها الطاعون الذي يعد عنوان الوباء ورمزه، ولكن هناك كذلك الجدري والتيفوس والملاريا والحمى الصفراء والسل والكوليرا والجزام وغيرها. ولكل وباء من هذه الأوبئة قصة تحكي عنف الاجتياح، وسبل التصدي والمواجهة، والاستسلام للخرافة، قبل الانتصار على الوباء بالعلم والتجربة. ولا يسعنا أن نستعرض في مقال قصير ما تضمنه هذ ا العمل القيم. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى بعض الملامح العامة.
لم تكن عمليات انتشار الأوبئة واحدة، فمن الأوبئة ما كانت تقبع في مكانها ويذهب إليها بشر، ومنها ما كان يأتيهم من حيث لا يدرون محمولة داخل أجساد قوارض أو بشر مصابين، ومنها ماتم نقله عن عمد لأغراض الدمار والسيطرة. إن الذهاب إلى بؤر الوباء كان شائعا بسبب تحركات الجيوش المستعمرة، وكانت الأوبئة لاعبا رئيسيا، إن لم تكن اللاعب الوحيد في بعض الأحيان، في تدمير الجيوش الغازية، فتكون غزواتهم هي نهايتهم المحتومة بفعل كائنات دقيقة لا يعرفون عنها شئيا. ويقدم لنا الكتاب العديد من الأمثلة، منها قصة الملك لويس التاسع، الذى حاول غزو مصر ففشل، واتجه بعدها نحو تونس فكانت نهايته والعديد من جنوده بوباء الطاعون الذي انتقل اليهم من فئران مصابة هناك. وفي قصة أخرى دمرت الحمى الصفراء حلم مهندس قناة السويس الفرنسي فرديناند دي لسبس بحفر قناة بنما، حيث انتقمت منه بعوضة صغيرة هناك تدعى “ايدس ايجبتاى” أو “عايدة المصرية” وأصابت رجاله بالحمى الصفراء والملاريا وقتلت منهم نحو عشرين ألفا. ولكن الحمى الصفراء نفسها يقال أنها انتقلت إلى الجانب الشرقي من الأطلنطي من أفريقيا مع موجات تجارة العبيد آنذاك. أما عن النشر العمدي للأوبئة يحدثنا الكاتب أنه في العام 1520 عندما كان القائد الإسباني كورتيس يلاحق الهنود الحمر في المكسيك بعث لهم ببطاطين ملوثة كان يتدثر بها مرضى الجدري، فأباد بهذا ما يقدر بثلاثة ملايين ونصف من الهنود الحمر”. إن المرض يحدث فهى نطاق ضيق، وبالحركة يصير الوباء، فإما أن يذهب إلى البشر أو يأتون إليه أو يحملونه في ترحالهم وينقولونه من بؤرة إلى أخرى.
وفي غياب العلم، كان البشر يبتدعون السبل التي يحاولون من خلالها تفسير ما يحدث لهم، فكانت الخرافة وسيلة المواجهة، ولكل وباء أساطيره وأوهامه وخرافاته. ويقدم لنا الكتاب العديد من القصص والأمثلة، نذكر منها، على سبيل المثال، القناعة بأن الهواء الفاسد هو سبب الإصابة بوباء الطاعون، ولذلك كان الناس يضعون الأربطة على أنوفهم. وكان هناك من ذهب إلى أن “الطاعون سببه براز الأرض يتشبع به الهواء بسبب حرارة الشمس، ثم تنقله الرياح من مكان لآخر، فمرة يأتى عاصفا ومرة أخرى يأتي على مهل”. ولجأ البعض أن نظرية الأرواح الشريرة، ووصلت الأوهام إلى حد القناعة بأن نظرات المريض نفسه تنقل المرض؛ لهذا كانوا يتحاشونها ويضعون على عينيه عصابة حتى لا يرى الآخرين، بل إن رائحته النتنة هي السبب، فكان محور علاج الأطباء هو إغراقه بالعطور من بخور وماء الورد وكافور… ولكنهم قصروا العنبر والمسك على مقام صاحب الجلالة الملك وزوجته جلالة الملكة لا يجوز لأحد غيرهما أن يتعطر بهما!!”. وفي أمريكا كان يتم إطلاق قذائف المدافع في الشوارع لطرد الهواء الفاسد. وتتكرر هذه الأوهام وفي ظل الجهل بالظواهر وتحت مظلة من الخرافات والقناعات الخاطئة، كانت الأوبئة تستشرى وتترعرع كما يقول الكاتب. ولا يتوقف الطوفان حتى يتم التعرف على أسباب الوباء وسبل انتقاله والوقاية منه فتنحسر الخرافات وتنزاح الغمة.
لا شك أن الثورات العلمية والتدابير الصحية المحلية والكونية حررت البشر من سطوة الأوبئة وأنهت بعضها إلى حيث لا رجعة، وحتى تلك التى لا تزال موجودة كالملاريا والحمى الصفراء والكوليرا لم تعد قادرة على الانتشار والغزو كما كان في السابق. ومع ذلك، فإن فيروسات الأنفلونزا ترسل إلينا رسائل متوالية بأن الحرب ضد الأوبئة لم تُحسم بعد. إن الأجيال المعاصر، وربما للمرة الأولى، تعيش أجواء حرب كونية، وهى حرب تشاركية بمعنى أن الكل موجود على الساحة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي يدلو بدلوه، وهكذا تتجاوز الحالة الوبائية حدود الوباء ذاته لتصبح لغة وخيالات وقناعات. سوف تنتهي موجة الوباء كما انتهى غيرها، لكن يظل خطر بقاء مخلفات الحالة الوبائية في اللغة والخيالات والقناعات.