منهج حياة
من محبة آبائنا الرهبان للصوم, جعلوه منهج حياة.
صارت حياتهم كلها صوما عداأيام الأعياد, ووجدوا في ذلك لذة روحية, ولم يشعروا بأي تعب جسدي. بل استراحوا للصوم وتعودوه.
وروي أنه لما حل الصوم الكبير في إحدي البراري, أرسلوا من ينادي في البرية لينبه الرهبان إلي حلول هذا الصوم المقدس, فلما سمع أحد الشيوخ من المنادي هذا التنبيه, قال له: ما هو يا ابني هذا الصوم الذي تقول عنه؟ لست أشعر به لأن أيام حياتي كلها واحدة [لأنها كلها كانت صوما].
والقديس الأنبا بولا السائح كان يأكل نصف خبزة يوميا, وفي وقت الغروب, كنظام حياة ثابت.
وبعض الرهبان كان يصوم كل أيامه حتي الغروب, مثل ذلك الراهب القديس الذي قال: مرت علي ثلاثون سنة, لم تبصرني فيها الشمس الأيام صوما. والقديس وبعض الرهبان كانوا يطوون آكلا..
مقاريوس الإسكندراني لما زار أديرة القديس باخوميوس. كان يأكل في يوم واحد من الأسبوع طوال أسابيع الصوم الكبير, وكان يطوي باقي الأيام…
ولم يقتصر صوم أولئك الآباء, علي طول فترات الصوم, أو طي الأيام, إنما شمل النسك أيضا نوع طعامهم…
أبا نفر السائح كان يتغذي بالبلح من نخلة في مكان توحده, والأنبا موسي السائح كان يقتات بحشائش البرية, وكذلك كان الأنبا بيجيمي السائح.. وكان يشرب من الندي…
هذا الصوم الدائم كان يجعل حياة الآباء منتظمة.
وفي الواقع أن حالة الرهبان من هذه الناحية مستقرة علي وضع ثابت. استراحت له أجسادهم, واستراحت له أرواحهم… وضع لا تغيير فيه, اعتادوه ونظموا حياتهم تبعا له.
أما العلمانيون فهم مساكين, أقصد هؤلاء الذين يتنقلون من النقيض إلي النقيض. من صوم يمنعون فيه أنفسهم, إلي فطر يأخذون فيه ما يشتهون, يضبطون أنفسهم فترة, ثم يمنحونها ما تشاء فترة أخري, ثم يرجعون إلي المنع, ويتأرجحون بين المنع والمنح فترات وفترات. يبنون ثم يهدمون, ثم يعودون إلي بناء يعقبه هدم, إلي غير قيام.
أما الصوم الحقيقي فهو الذي يتدرب فيه الصائم علي ضبط النفس ويستمر معه ضبط النفس كمنهج حياة…
في ضبط نفسه في أيام الفطر كما في أيام الصوم, علي الرغم من اختلاف أنواع الأطعمة ومواعيد الأكل… وهكذا يكون الصوم نافعا له, ويعتبر بركة لحياته.
وبهذا المعني لا يكون الصوم عقوبة, بل نعمة.
كانت أكبر عقوبة توقع علي أحد الروحيين, أن يأمره أب اعترافه بأن يأكل مبكرا, أو يأكل لحما و طعاما شهيا. وكان أب الاعتراف يفعل هذا إن رأي ابنه الروحي قد بدأ يرتفع قلبه أو يظن في نفسه أنه قد صار ناسكا أو زاهدا, فيخفض كبرياءه بالأكل, فتنكسر نفسه, وبذلك يتخلص من أفكار المجد الباطل…
الصوم والاستشهاد
طبيعي أن الذي لا يستطيع الاستغناء عن أكله, يكون من الصعب عليه أن يستغني عن الحياة كلها.
أما النفوس القوية التي تتدرب علي احتمال الجوع والعطش, والتي تستطيع أن تخضع أجسادها. وتقهر رغباتها وشهواتها, هذه بتوالي التداريب, وبعدم الاهتمام بالجسد واحتياجاته, يمكنها في وقت الاستشهاد أن تحتمل متاعب السجون وآلام العذاب, وتستطيع بنعمة الله أن تقدم أجسادها للموت.
لهذا كان الصوم مدرسة روحية تدرب فيها الشهداء.
ليس من جهة الجسد فقط, وإنما أيضا من جهة روحانية الصوم. لأنه إذ تكون أيام الصوم مجالا للعمل الروحي والتوبة والاقتراب إلي الله, تساعد هذه المشاعر علي محبة الأبدية وعشرة الله, وبالتالي لا يخاف الإنسان من التقدم إلي الموت, إذ يكون مستعدا للقائه, بل يكون فرحا بالتخلص من الجسد للالتقاء بالله, ويقول لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح, فذاك أفضل جدا (في 1:23).
بالصوم كانت الكنيسة تدرب أولادها علي الزهد.
وبالزهد كانت تدربهم علي ترك الدنيا والاستشهاد.
فالذين استشهدوا كانوا في غالبيتهم أهل صوم وصلاة وزهد في العالم. وكما قال القديس بولس الرسول يكون الذين يستعملون العالم, كأنهم لا يستعملونه, لأن هيئة هذا العالم تزول. (1 كو 7:31).